رغم أهمّية الحراك الشعبي الذي تفجّر في 17 تشرين الأوّل والآفاق الوطنية التي خلقها، فإن مقاربات "الثوّار" كثيرًا ما تتّسم بالعفوية وتعجز عن تفسير الأسباب الحقيقية للإعصار الذي يضرب البلاد.
هذا الخلل من شأنه أن يحرف "الثورة" وشعاراتها عن الأهداف الصحيحة، ويوجّهها نحو أهداف ثانوية أو هامشية، خصوصًا عند مقاربة الأزمات الاقتصادية والمالية.
صحيح أن الدولة اللبنانية تعرّضت إلى أكبر عملية نهب في تاريخها، لكن سرقة المال العام على أهمّيتها لا تُقاس بالأضرار الجسيمة التي تسبّبت بها السياسات الخاطئة التي انتهجتها الدولة منذ نهاية الحرب الأهلية. وإذا كان المجتمع اللبناني يريد بحقّ أن يحاسب المسؤولين عن الأوضاع المأساوية التي انزلقت إليها البلاد، فعليه أن يبدأ أوّلًا بمعاقبة المسؤولين عن هذه السياسات، ثمّ يأتي دور الذين سرقوا المال العام.
من الأفضل حصر ملاحظاتنا بالسنوات العشر الأخيرة، أي منذ سنة 2010، لأن العقد الأخير شهد تدهورًا كبيرًا في مختلف جوانب الحياة الاقتصادية، خصوصًا الحسابات الخارجية ومعدّل النموّ ومالية الدولة. خلال هذه الفترة وحدها زاد الدين العام المعلن بنسبة 70 بالمئة قياسًا برصيده آخر سنة 2010، مرتفعًا من 51 إلى 87 مليار دولار.
في طليعة المسؤولين عن التدهور في هذه الفترة هم وزراء المال، الذين امتنعوا عن اقتراح برامج متوسّطة الأجل لوقف التدهور والخروج من النفق. لجأ بعضهم، بدلًا من ذلك، إلى "التلاعب" بتقديرات الإيرادات والنفقات بغية الإيحاء بضبط نسبة العجز عند إقرار مشروع الموازنة. ولا يهمّهم ما يحصل بعد ذلك عندما ينكشف العجز الحقيقي في الحسابات الختامية.
والحكومات كلّها مسؤولة بالتكافل والتضامن مع وزراء المال. وكذلك لجنة المال والموازنة في البرلمان، التي استهواها تسجيل الانتصارات الخطابية وصرف نظر الرأي العام عن الإصلاح المالي الحقيقي عبر إشغاله بفضائح وهميّة وحبكات بوليسية، وتعديلات هزيلة في الأرقام، لا تقدّم ولا تؤخّر. لقد سيطرت أساليب "البروباغندا" على عمل اللجنة، رغم وجود شخصيات متّزنة وخبيرة في صفوفها مثل الوزيرين ياسين جابر ونقولا نحّاس.
عوّضت الحكومات عن تقصيرها برمي أعباء السياسة المالية على كاهل السياسة النقدية، للتهرّب من اتّخاذ القرارات الصعبة والمؤلمة التي تستثير الاعتراضات الشعبية في وجه الحكومة والنظام. لكن هذا التوجّه خرب الاقتصاد اللبناني، إذ حرم المشاريع الخاصّة من التمويل المصرفي، الذي تحوّل بقوّة السياسة النقدية وأدواتها إلى تمويل دولة متهالكة ومتّجهة بسرعة نحو الإفلاس.
قبول مصرف لبنان بحماسة لهذا الدور يتناقض في أكثر من وجه مع موجباته كما حدّدها قانون النقد والتسليف. يحظّر القانون تسليف المصرف للدولة حظرا شبه مطلق، لحماية العملة اللبنانية من التضخّم، مع ذلك فمصرف لبنان لم يكتف بتسهيل حصول الدولة على التسليف المصرفي بل أقرضها أيضا بشكل مباشر خلافا لقواعد تمويل الخزينة في العالم بأسره. في نهاية تشرين الأوّل الماضي بلغت محفظة مصرف لبنان 55 بالمئة من دين الدولة بالليرة اللبنانية.
التشبّث بتثبيت سعر صرف الليرة، تلبية لرغبة السلطة السياسية، رغم فداحة العجزين المتزامنين في الميزان التجاري ومالية الدولة، أسّس للعاصفة النقدية والمصرفية التي تضرب لبنان اليوم. لقد استهلك وبعثر جزءا كبيرا من مدّخرات اللبنانيين بالعملات الأجنبية، وجعل ميزانية مصرف لبنان نفسه عرضة لأعباء جسيمة مخفية عن عيون الرأي العام.
لا ننسى في هذا السياق مسؤولية الأداء السياسي عن الانهيار. إقفال البرلمان، تأجيل الانتخابات النيابية، تعطيل الانتخابات الرئاسية، عرقلة تشكيل الحكومات، إبقاء البلد دون موازنة خلال أحد عشر عاما، الخلافات الحادّة في مجلس الوزراء حول تقاسم المنافع والمحاصصة، كل ذلك وسواه يدفع لبنان فواتيره الآن باللحم الحي.
يا شباب لبنان الثائرون. تنتصر حركتكم عندما تحدّدون الأهداف الصحيحة وترفعون الشعارات الصائبة وتقومون بالخطوات المفيدة وتبتعدون عن الاستعراض.
تذكّروا شعار الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة: "الأهمّ قبل المهمّ".