خذلك العالم وأنصفتك الثورة
قندهار البقاع، هكذا نعتها القبيحون على مدى سنوات. وهكذا سوّق لها إعلام السلطة. صوّروها على أنها معقل الإرهاب ومأوى المتطرّفين وملاذ الفارين من العدالة. زجّوها في حساباتهم السياسية الضيقة وأغلقوا عليها فعزلوها.
قندهار البقاع، هكذا نعتها القبيحون على مدى سنوات. وهكذا سوّق لها إعلام السلطة. صوّروها على أنها معقل الإرهاب ومأوى المتطرّفين وملاذ الفارين من العدالة. زجّوها في حساباتهم السياسية الضيقة وأغلقوا عليها فعزلوها.
من أسباب التأزّم اللبنانيّ خضوعُ الإعلام اللبنانيّ لمشيئةٍ هي غير مشيئة البحث عن الحقيقة. من النادر أن تقوى مؤسّسةٌ إعلاميّة لبنانيّة على تمويل ذاتيّ محض. معظمها، لا بل جميعها، تستعطي الناسَ النافذين في الداخل أو في الخارج.
ليس حدثًا عاديًا ما يجري في لبنان منذ السابع عشر من تشرين الأول الماضي. إلّا أن هذا الحدث الاستثنائي، ولكي لا يبقى مجرّد محطّة عابرة، من الواجب تحويله إلى حدثٍ تأسيسي عبر إطلاق الشروط اللازمة التي تضمن تثمير هذا الحدث.
احترامًا للغضب الشعبيّ الصادق ينبغي أن نعترف بهذه الرغبة الملحّة في الثورة تستحوذ على وعي فئات كثيرة من المجتمع اللبنانيّ. فليس من الصواب العقليّ أن يُنكر المرء ما يعاينه في مشاعر الناس من تحرّق ساخط، واختناق منهك، ويأس سحيق.
في عام 1999، يوم صياغة كتابي، كان الدين العام ما زال في حدود العشرين مليار دولار، وقد خصّص الجزء الأكبر منه لإعادة إعمار المرافق العامة -مع ما رافق ذلك من هدر وتبذير- وبدلًا من العمل على معالجة الوضع لتسديد الدين أو تخفيضه على الأقل، استمرّت الدولة في سياستها اللامسؤولة واستمرّ الدين العام في التضخّم ليتجاوز بعد عشرين سنة، أربعة أضعاف ما كان عليه حينذاك.
للثورات في العالم أزمنتُها وقرائنُها وأحوالُها وقضاياها وآفاقُها ومصائرُها ومآلاتُها. وعليه، ميَّز الفكرُ السياسيّ المعاصر الهيجانَ من العصيان، والعصيانَ من الانتفاضة، والانتفاضةَ من الثورة.
يذكّرني هؤلاء اللبنانيّون بسيرة أهل الكهف الذين تناولهم أفلاطون حين دعاهم إلى الانعتاق من سلاسل الجهل، والخروج إلى منفسحات النور المعرفيّ وفضاءات المثُل الإنسانيّة العليا. مَن تعوَّد ظلمةَ الجهل والعبوديّة ظنَّ أنّ الوجود كلّه منحوتٌ على هذا النحو.
منذ العام 1990 يتعرض الاقتصاد اللبناني لعمليات نهبٍ منظّم أوصل الدولة إلى مئة مليار دولار دين تقريبًا وإلى تراجع القوة الشرائية للمجتمع.
أغارت الهراوات السوداء على الخيم شبه الخالية في توقيت ما قبل التظاهر، فحطّمت الأعمدة ومزّقت الأقمشة، لكن ظلال الفارين منها طاردت نفوس المغيرين عليها، وغرزت بصماتها في ضوضائهم. فلما عاد المتظاهرون، إلى الساحات تمددت ظلالهم إلى أوسع من الأصل، وشكلت متراساً لا يخترقه الرصاص، ولا يشرده الخوف. تلك أيام أصبحت فعلاً من أيام العرب، إذا غابت عن العيون دامت في الوعي والوجدان، تماماً كقول الشاعر: ألْجِسْمُ أقْوَى وَيَفْنَى والرسْمُ أوْهى وَيَبْقَى
أعجبُ كلَّ العجب من هؤلاء اللبنانيّين الذين ما زالوا ينتظرون من زعماء طوائفهم إصلاحَ الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والتربويّة والبيئيّة. ويبدو لي أنّ الذهنيّة اللبنانيّة ما انفكّت أسيرة عبادة الزعماء، شأنها في ذلك شأن الذهنيّات البطريركيّة القديمة التي أثبتت الحداثةُ الفكريّة أنّها عادت لا تلائم مبدأ الحرّيّة الفرديّة الذاتيّة. جميع القوميّات والأيديولوجيّات الإقصائيّة الاحترابيّة تستميت في اختراع صورةٍ بهيّة للزعيم القائد تستنهض بها عزائم الناس للإطباق على وعيهم، والانقضاض على ضميرهم، والإجهاز على حرّيّتهم.