­

Notice: Undefined index: page in /home/lbnem/domains/monliban.org/public_html/monliban/ui/topNavigation.php on line 2

نحو استراتيجيّة عربيّة للمواجهة الثقافيّة

د. مسعود ضاهر

تحتلّ الدول العربية موقعاً استراتيجياً مهمّاً بين القارّات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقيا. ونظراً لقربها من الدول الأوروبية، تعرّضت المناطق العربية لغزو أوروبي استعماري منذ مطلع القرن التاسع عشر أدّى إلى سقوطها تباعاً تحت سيطرةٍ غربية وفق تسميات متعدّدة من الاحتلال والحماية والوصاية والانتداب. لكنّ نضالات الشعوب العربية من أجل الاستقلال السياسي أسّست لمرحلة جديدة في تاريخ العرب الحديث والمعاصر. ممّا سمح لقوى التحرّر العربية بلعب دورٍ بارز في مسار الانتفاضات الشعبيّة لمنع عودة التدخّل الخارجي إلى الدول العربية.

غنيّ عن التذكير بأنّ استمرار تبعية العرب الثقافية للغرب أنتج سلسلة الهزائم والنكسات العسكرية، وأفشل خطط التنمية البشرية والاقتصادية المُستدامة في العالم العربي، وقاد إلى تراجعٍ مريع في مستوى الإنتاج الثقافي العربي، وإلى هجرة كثيفة للنخب الثقافية والفنّية العربية إلى الغرب. ولم يعد بمقدور المجتمعات العربية أن تحافظ على وحدتها من دون إدخال إصلاحات جذريّة في بُناها ومؤسّساتها.

وبعد انتفاضات ما سُمّي بالربيع العربي، برز مشروع استعماري جديد هدفه تفكيك الدول العربية القائمة وإعادة رسم حدود المنطقة العربية، وقيام شرق أوسط جديد على حساب الدول العربية وشعوبها. فدعمت دول خارجية كلّ أشكال الإرهاب الدولي عبر تنظيمات إرهابية سارعت إلى إلغاء الحدود الجغرافية المعترَف بها دولياً بين العراق وسوريا، وبدأت حملات تطهيرٍ قومي وعرقي وديني في مناطق تواجدها.

إنّها اللحظة التاريخية الملائمة لإعادة النظر في مقولات الفكر العربي السابقة. ولا بدّ للمفكّرين العرب من معالجة المشكلات الحادّة التي تعانيها المجتمعات العربية كالبطالة، والفقر، والأمّية، والتصحّر، والمخدّرات، وهجرة الأدمغة العربية إلى الخارج، وضعف القوى المنتِجة، وغياب المشروع القومي العربي الجامع، وغيرها. بحيث أدّت التغيّرات الراهنة إلى غياب الدور الفاعل للعرب في ظلّ تكتّلات جغراسية كبيرة تلعب دوراً أساسياً في عولمةٍ همجية تستخدم مبدأ القوّة، بأشكالها العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي تؤسِّس لإمبريالية عالمية متجدّدة، وتهدّد أمن منطقة الشرق الأوسط واستقرارها، كما تهدّد بفتح باب التغيير فيها على احتمالات عدّة، وبتوسّع رقعة الحروب المحلّية إلى حروب إقليمية، بما يهدّد السلام العالمي أيضاً.

فيما يواجه الفكر العربي اليوم اختباراً صعباً في استنباط مقولات علمية عقلانية في ظروف إقليمية ودولية معقّدة، وتبدّلات مهمّة في بنية النظام العالمي، والمشاركة في تأسيس عولمة أكثر إنسانية.

نخلص إلى القول إنّ العرب اليوم بحاجة ماسّة إلى رؤية عقلانية وشمولية لما يجري على الساحتَين الإقليمية والدولية، وتعزيز دور القوى العسكرية التي تساند القوى المنتفِضة لكي تحمي المجتمعات العربية من التفكيك وتحافظ على الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية والعيش المشترك. وذلك يتطلّب بناء مؤسّسات ثقافية عربية عصرية قادرة على مواجهة إرهاب المنظّمات الأصولية والتكفيرية أولاً، والتصدّي للمشروع الصهيوني المتداخل مع مشروع الشرق الأوسط الكبير لمحو عروبة فلسطين، وتثبيت يهودية دولة إسرائيل ثانياً، ومجابهة تحدّيات عصر العولمة وثقافته الكونية ثالثاً.

لقد رفعت الانتفاضات العربية شعارات عدّة ذات دلالات استثنائية متميّزة، أبرزها رغيف الخبز مع الكرامة، والدعوة إلى قيام دولة مدنية ديموقراطية على ركائز مجتمع المعرفة القادر على مواجهة تحدّيات العولمة. وحذّر المتنوّرون العرب من مخاطر عودة الهيمنة الخارجية بسبب العجز العربي عن مجابهة التحدّيات الداخلية والخارجية، وبناء مؤسّسات ديموقراطية وتربوية وثقافية تجعل من الشعب حَكَماً ومراقِباً ومُحاسباً.

ليس من شكّ في أنّ سياسة القوى العربية الحاكمة لعبت دوراً أساسياً في تفكيك المجتمعات العربية من الداخل؛ وأنّ الانتفاضات العربية أسهمت بدورها في إنتاج الفوضى غير الخلّاقة التي سهّلت تدخّل قوى إقليميّة ودولية كانت تخطّط منذ عقود طويلة لحماية مصالحها الكبيرة في هذه المنطقة الغنيّة بالنفط والغاز، والتي تشكّل مركزاً اقتصادياً مهمّاً جدّاً في الاقتصاد العالمي.

لا بدّ إذن من إعادة النظر جذرياً في المقولات الثقافية السائدة الآن على الساحة العربيّة، وبخاصّة تلك التي تُضعِف من دور المثاقفة السليمة والحوار من موقع الندّية بين الثقافة العربية وثقافات عصر العولمة. ومن أولى واجبات الاستراتيجية الجديدة التركيز على بناء دولٍ عصرية قادرة على مواجهة تحدّيات العولمة والتاريخ المعولَم.

فمنذ نهاية الحرب الباردة أصبح التاريخ الكوني معولَماً بالكامل لدرجة أنّ فرص اندلاع حرب عالمية ثالثة باتت شبه معدومة لأنّها تقود إلى تدمير الجنس البشري بكامله. وقد أطنب بعض المثقّفين، من العرب وغير العرب، في مديح الهويّة الكونية واعتبروها المدخل الأساسي للتاريخ الكوني الجديد، وثقافة القرية الكونية الواحدة. ودعا المتنوّرون العرب إلى قيام مشروعات التكامل الاقتصادي والتنمية الشمولية بين جميع الدول العربية، وتوصيف السمات الأساسية للنهضة العربية الجديدة بأنّها حركة شعبية ذات أبعاد شمولية وإنسانية. وطالبوا بتشكيل كتلٍ بشرية واقتصادية كبيرة ومتّحدة لكي تشارك بفاعلية في بناء عولمة أكثر إنسانية. علماً أنّ بناء مجتمع المعرفة في كلّ دولة عربية وعلى المستوى العربي العام، ونشْر العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطوّرة، واحترام حقوق الشعوب العربية في الحرّية، والسيادة الوطنية، والوحدة القومية، والتنمية الشمولية يشكّل العمود الفقري للمجابهة الثقافية الشاملة لحماية المجتمعات العربية ومنع تفكّك دولها القائمة.

وفي زمن صعود التيّارات التكفيرية والسياسية المتطرّفة، بات الاستقلال السياسي لجميع الدول العربية مهدَّداً اليوم أكثر من أيّ وقت مضى بسبب تفكّك النظام الإقليمي العربي، وغياب التضامن بين أركانه على المستويَين الوطني والعربي الشامل. وباتت الحدود الإقليمية للدول العربية القائمة الآن غير مستقرّة. كما أنّ مشروع الشرق الأوسط الجديد يضع العالم العربي أمام تحدّيات خطيرة جدّاً وغير مسبوقة في تاريخ العرب لأنّها ستقود إلى تبدّلات جذريّة في جغرافيّة العرب وحدود دولهم القائمة.

أخيراً، يواجه العالم العربي تحدّيات مصيرية تندرج في سياق التبدّلات السياسية والإقتصادية والعسكرية التي أفرزتها عولمة القطب الواحد، والتي أدّت إلى هيمنة شبه مطلقة على منطقة الشرق الأوسط الغنيّة جدّاً بالموارد الطبيعية. ولا تستقيم الرؤية النقدية العربية إلّا بتصويب مسار الفكر العربي، والإصرار على شعار الدولة المدنية الديموقراطية دون سواها، وبناء أنظمة سياسية تحترم التعدّدية والتنوّع في داخلها، وتعمل على بناء نهضة عربية على أسس جديدة تتلاءم مع طبيعة عصر العولمة وتكتّلاته الجغراسية الكبيرة. ومن أولى واجبات النخب الثقافية العربية الدفاع عن دولها الوطنية لتكون قادرة على مواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية معاً. وتلعب التنمية الثقافية الدور الأساسي في بناء المواطن الحرّ، والهويّة الوطنية أو القومية الجامعة التي تسهم في تعزيز حضور العرب على المستويَين الإقليمي والدولي. وعليهم الإجابة عن التساؤل المنهجي التالي: لماذا تأخّر العرب بعد نيلهم الاستقلال السياسي وتقدَّم غيرهم من شعوبٍ عاشت ظروفاً تاريخية مشابهة؟ ولماذا تمنّعت كثرة من المثقّفين العرب عن إنتاج دراسات علمية تقارن بشكل رصين بين ما قدّمه المتنوّرون العرب وما قدّمه مثقّفون متنوّرون من جنسيات أخرى كانت تعيش بلدانها ظروفاً مشابهة لتلك التي عاشها العرب في ظلّ الاحتلال والاستعمار الخارجي؟ فما أنتجه متنوّرون من شرق آسيا، وأميركا اللاتينية، وأفريقيا من مقولات نظرية ومواقف إصلاحية قام بها رجال الدين، والسياسة، والثقافة، والإعلام في تلك الدول قاد إلى تحرّر دول أميركا الجنوبية من التبعية للخارج ودخولها التاريخ العالمي المعاصر كدول مستقلّة، وذات سيادة، ولديها حضور سياسي وثقافي واقتصادي بارز في زمن التكتّلات الاقتصادية الكبيرة.

مع ذلك، بلور المثقّفون العرب مقولات نظرية تدافع عن حرّية الفكر في مواجهة القوى الظلامية، ودعوا إلى نقد الدعوات التكفيرية التي تتبنّى طريق الانغلاق على الآخر ورفض الحوار معه. في الوقت عينه، أطلقت الانتفاضات العربية مقولات نظرية تدعو إلى إسقاط الأنظمة التسلّطية التي لا تؤمّن لشعوبها رغيف الخبز مع الكرامة. ودعت إلى الافتخار بالتراث العربي الذهبي من دون الوقوع في تمجيده، وإلى امتلاك ثقافة عصرية، وهويّة خاصّة منفتحة على الآخر المختلف، وإلى نشر مقولات إصلاحية لتطوير بنى المجتمعات العربية بصورة تدريجية. في هذا المجال، لا بدّ من التركيز على ضرورة امتلاك المعرفة الضرورية لبناء ثقافة عربية عصرية بأدوات تقنية وبرامج عصرية متطوّرة تتلاءم مع طبيعة عصر العولمة، وتُحصّن المجتمعات العربية من السقوط الدائم في التغريب المفضي إلى الاستلاب.

ختاماً، يعيش العرب اليوم لحظة تاريخية ملائمة لإطلاق مشروع تنويري جديد يطال جميع الدول العربية. وهناك تفاؤل ملحوظ بالمستقبل لأنّ الشباب العربي المنتفِض يرفض التراجع عن التغيير الديموقراطي. وأضحت الدعوة إلى الإصلاح الجذري أقوى في زمن الانتفاضات العربية المستمرّة بحثاً عن المواطنة السليمة، والمساواة في دولة ديموقراطية تقيم التوازن بين الأصالة والمعاصرة.

في المقابل، أثبتت تجربة قرن بأكمله من الاقتباس السهل لمقولات الثقافة الغربية أنّها قادت إلى البلادة الذهنية والبؤس الثقافي على امتداد الوطن العربي. ولا يزال الهمّ الإيديولوجي حاضراً بكثافة في المجتمعات العربية، ولم يساعد على الارتقاء بالفكر العربي إلى مرحلة جديدة من المواجهة مع مقولات العولمة من خلال الاستجابة للتحدّي الحضاري، وبناء نهضة عربية شاملة طال انتظارها، والمشاركة في بناء نظام عالمي جديد وعولمة أكثر إنسانية.

د. مسعود ضاهر

مؤرّخ وكاتب لبناني

أفق

الجمعة 11 آذار 2016