الإصلاح ذلك السرّ المكشوف
الدكتور داود الصايغ
ذات يوم في أواسط خمسينات القرن الماضي أيام ولاية الرئيس دوايت آيزنهاور، وأثناء جولةٍ له في إحدى الولايات تقدّمت منه بين الحشود سيدة رافعة بيدها برطمانًا قائلة له: يا سيدي الرئيس إنه يحتوي على مربّى التفّاح… من لبنان. وتقول الرواية يومذاك إن الرئيس ابتسم شاكرًا وأخذ الهدية معه.
تلك اللبنانية اقتحمت الحشود حاملةً معها ذلك الكنز الصغير من لبنان وهي تعرف أن في أميركا أنواعًا عديدة من التفّاح. ولكن تلك النكهة اللبنانية ليست موجودة في أي بلدٍ في العالم. والرئيس الأميركي عرف ذلك، فتلك الهدية الصغيرة هي على صورة الوطن الصغير.
بعدها بفترةٍ قصيرة زمنيًا، وفي تموز عام ١٩٥٨ أمر الرئيس آيزنهاور بإنزال قوّات مشاة البحرية الأميركية على شاطئ الأوزاعي في بيروت، بطلبٍ من الرئيس كميل شمعون، أثناء ما سُمّيَ آنذاك بالأحداث أو "بالثورة"، التي لم تستمرّ أكثر من بضعة أشهر، وانتهت بانتخاب الرئيس فؤاد شهاب باتّفاقٍ حصل بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر وموفد آيزنهاور ريتشارد مورفي.
لم يكن برطمان المربّى هو السبب، بل ذلك السرّ الأميركي الذي ساد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، وهو سرّ المصلحة الحيوية، القائمة على منطقٍ أساسي لا يتغيّر وهو منطق القوّة.
على خطوات "المارينز" جاءت تلك الموفدة الحسناء مورغان أورتاغوس ليس كسفيرة أو موفدة خاصة من قبل الإدارة الأميركية بل كمفوّضة سامية كاملة الصلاحيات. دونالد ترامب لم يفعل شيئًا سوى إكمال ذلك التقليد ولو بالأسلوب الفجّ المعروف فهو جسّد بشكلٍ لا سابق له في تاريخ أميركا العقلية السائدة ذاتها وهي عقلية احترام القوي، من راعي البقر والشريف والملياردير التكساني إلى الشهير لأي سببٍ كان حتى وإن كان زعيمًا مافيويًا. وليس في أميركا من مكانٍ في السياسة المحلية لمن ليس قويًا. إذ ليس فيها مكانٌ للضعفاء. وما ينطبق على السياسة الداخلية فيها ينطبق على العلاقات الدولية. وهذا ما اعتمده ترامب في اختياره لمعاونيه معتبرًا أن القوّة هي في القدرة على الظهور الإعلامي. ولكن السوابق تدلّ على أن منطق القوّة كان هو السائد.
وقد روى الدكتور بطرس بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتّحدة ما بين ١٩٩٣ و١٩٩٦ وهو توفي عام ٢٠١٦ حادثة تُعطي فكرة عن طريقة تعاطي المسؤولين الأميركيين مع الآخرين. إذ بعد ما أدّى خلافه مع الإدارة الأميركية حتى ما قبل نشره التقرير الشهير عن مجزرة قانا الأولى عام ١٩٩٦ إلى استبعاد مشروع انتخابه لولاية جديدة في الأمانة العامة لولاية جديدة. وبعدما ألقى في الجمعية العامة خطابًا وداعيًا استقبل في اليوم التالي في منزله وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت على مائدة العشاء التي قالت له: "إن خطابك البارحة كان قذرًا". قالت له هذا الكلام في منزله وفي حفل عشاء أقامه على شرفها.
ما قالته مورغان أورتاغوس في زيارتها الأولى في شهر شباط الماضي من على منبر الرئاسة في لبنان لا يختلف كثيرًا في لهجته عمّا قالته مادلين أولبرايت لبطرس غالي. أميركا حضرت مرارًا في لبنان بعد عام ١٩٥٨، وليس المجال كافيًا هنا لاستعراض علاقة لبنان معها. بل للتساؤل، بعد التوصّل إلى وقف إطلاق النار في تشرين الثاني ٢٠٢٤ إثر دور آموس هوكشتاين المعروف وتشجيع انتخاب الرئيس جوزاف عون وتشكيل حكومة الرئيس نواف سلام، وعلى ضوء حرب غزّة الدامية ذيولها، وعلى أثر فرض واشنطن شروطها على إيران في التفاوض، ونتيجة التغييرات الإقلمية والدور السوري وصعود الدبلوماسية السعودية بهذا الشكل، للتساؤل: ماذا تريد أميركا من لبنان في هذه المرحلة التي يتحرّك فيها التاريخ.
الأجوبة على هذه التساؤلات تكمن ربما في أسئلة:
- هل أميركا باتت صاحبة الكلمة الأولى في الشأن اللبناني، بعدما انتهت ما سُميت بـ"حرب الإسناد" إلى هزيمة حزب الله العسكرية في الأوصاف؟
- هل الإصلاح الذي ما زال العالم يُطالبنا به منذ عام ٢٠١٩ أصبح ممكنًا وبخاصة بعدما أبدت الموفدة الأميركية اهتمامًا خاصًا به يوازي الاهتمام بنزع سلاح حزب الله؟
- كيف يمكن إزاحة ما أسماه العالم كلّه بمن فيه البابا فرنسيس، الطبقة السياسية التي فرضت نفسها حتى في تأليف الحكومة الحالية التي جاءت نتيجة محاصصة معروفة ولو بشخصياتٍ غير تقليدية؟
- هل يمكن الإصلاح بالاستعانة بأشخاص جدد أصحاب كفاءات واستقامة، ولو من دون خبرة، وكيف يعود القضاء إلى العمل ويستمرّ التحقيق في انفجار المرفأ من دون عراقيل كما هو الحال منذ خمس سنوات؟
- كيف تتمّ المحاسبة التي هي حجر الأساس في إصلاح الدولة والمؤسـّسات والإدارات العامة إذ أن التاريخ الحديث يدل حتى الآن إذ أنه لم تتمّ حتى الآن محاسبة أحد من السياسيين أو كبار المديرين أو المحسوبين على زعمائهم؟
- مع الاعتراف بجهود الحكومة لوضع معايير في التعيينات، والعمل التشريعي لإصلاح القطاع المصرفي، هل بالإمكان وقف تبادل المسؤوليات والاتهامات عن الانهيار وفقدان الودائع بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف؟
- كلّها أولويات قالها رئيس الجمهورية جوزف عون وكلّها تحتاج إلى وقت.
- ولكن العنوان الأساسي لكلّ ما هو مطلوب، مطلوب داخليًا وخارجيًا هو استعادة الثقة، والإصلاحات هي المدخل الأساسي.
- الإصلاح ليس صعبًا. إنه يبدأ بالذات، بالقدوة التي تسمح وحدها بمحاسبة الآخرين. وإلّا كيف تقدّمت الدول والمجتمعات، كيف حكم القضاء الفرنسي على الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وعلى زعيمة اليمين لو بين. وكيف دخل دونالد ترامب نفسه قبل الرئاسة إلى المحكمة.
وسيلة الإصلاح تُختصر بكلمة لعلّها وردت في كلامٍ مقدّس يقول: "ليس أحد يضع رقعة من ثوب جديد على ثوبٍ عتيق، وإلّا فالجديد يشقّه والعتيق لا توافقه الرقعة التي من الجديد".
الدكتور داود الصايغ
الخميس 17 نيسان 2025