­

Notice: Undefined index: page in /home/lbnem/domains/monliban.org/public_html/monliban/ui/topNavigation.php on line 2

دفاتر صنين

سمير عطالله

"جاوز الأنجم واحتل السحابا

جبل مهد للفردوس بابا"

بولس سلامة

ثمة شَبه غريب بين جذور أمين معلوف و"أيام الصفاء والضوضاء" لغالب غانم، ترسمه الجغرافيا. الأول يروي سيرته بدءًا من عين القبو، القرية الصغيرة في فناء صنين، والثاني يبدأ السرد من بيت ريفي في بسكنتا، وطى صنين. وفي السيرتَين معالم الحياة في صفاء القرى وشقائها، وفيهما سفر وغربة وعِلم وشعر. ولبنان. وفي الحالتَين، الأب هو الذي يورّث، البيت والعريشة وصناعة الشعر، وقيافة النثر، الحاضر أبدًا في ذلك المثلّث الصخري. والثلث الثالث هنا، هو "شخروب" ميخائيل نعيمة، ومعتزله في فضاء العبقريات.

في سرد القاضي غالب غانم لسيرته الشخصية، صوَر الطفولة في بسكنتا، وفي سرد أمين معلوف عن "جذوره"، تتشابه صور نشوء الأجيال وتكاد تتوازى. الأب هو أيضًا المعلّم، وهوالمثال المحتذى وصانع الأثر. رشدي المعلوف ليس فقط أبًا في قرية يهبط عليها العتم وتنطلق منها الريح، بل هو أيضًا قدوة من القدوات، وعبدالله غانم، الملقّب "المعلّم عبدالله" نموذج في مصانعة الحياة وشقاء السفح، وقسوة الجرود. وكلاهما تأثر من دون شك بآداب ساكن "الشخروب"، بين الكتب والكرز. وضع ميخائيل نعيمة سيرته في ثلاثة أجزاء تحت عنوان "سبعون". وسوف ترى فيها الصورة الجغرافية التي لا تتغير، عند كتّاب المثلّث. فقط الأجيال تتحوّل.

جيل غالب غانم، هو جيل الانتقال العظيم. جيل الأبناء الذين نزلوا إلى بيروت من الجبال، وعاشوا في مدارسها وتفوّقوا في معاهدها وجامعاتها، ومن ثم أغنوا مؤسساتها القائمة حديثًا مع سنوات الاستقلال الأولى.
لم يفتح عبدالله غانم بيتًا في وطى صنين، بل مدرسة أيضًا. هو "المعلّم عبدالله" قبل أي شيء، ولاحقًا الشاعر الذي يعقد القصيدة بالعامية والفصحى في غنائية واحدة: "أترى غابر الزمان يرانا". لكن المحكية التفعيل ترجح كفّتها عندما تغني فيروز، ويغنّي معها لبنان: "دقّت على صدري وقالت لي افتحو / تا شوف قلبي إن كان بعدو مطرحو".

كان ذلك زمن الرومانسية والعشق العذري، وعز فيروز بعد "عتاب" ونوى القلوب الشابة. وما لبثت "دقّت على صدري وقالت لي افتحو"، أن ملأت البيوت وعبرت الشرفات حاملة آهات العاشقين. لم يعد "المعلّم عبدالله" شاعرًا مغمورًا، يعيش من إرسال جريدته "صنين" إلى ديار الاغتراب، تخاطب حنينهم إلى ليالي القمر، والحكايات التي تركوها خلفهم على المفارق ودرب العين، بل أصبح اسمًا بين مشاهير المدرسة اللبنانية في مرحلة الحداثة الكبرى، من الزجل التقليدي، إلى مراتب العامية في شعر ميشال طراد وسعيد عقل وميلوديات عاصي ومنصور التي فاقت تعريف الشعرين معًا.

جميع الذين ولدوا في بيت عبدالله غانم أرادوا أن يكونوا من حوارييه. وجميعهم، من جورج البكر، إلى رفيق الأصغر، اختاروا مهنة أدبية يعيشون منها، وحياة أدبية يعيشون لها. وقد بكّر "المعلّم عبدالله" في مغادرة مثلّث الإلهام في سفح صنين، لكن أبناء المدرسة، ولاحقًا أمناءها، ساروا في الموكب، كأنما الأب المعلّم يدقّق في "فروضهم" كلّما عاد من زيارته إلى ميخائيل نعيمة في الجوار، بعد "عصرية" ممتعة من عصريات الشعر والكرز- وأحاديث الروح.

أطل جورج غانم منذ اللحظة الأولى شاعرًا بين الشعراء ونجمًا من "حلقة الثريا" مع أنوار إدمون رزق، وسحريات شوقي أبي شقرا، وكلاسيكيات الراحل ميشال طعمة. وفي خطاه وخطى الأب سارع روبير غانم إلى الظهور شاعرًا وأديبًا. وكان روبير عزيزًا وطيبًا ومؤنسًا لأصدقاء العمر. وبسبب تلك الأخوة النضرة والحرة، كان لي مكان ضمن العائلة مع سمير وشكري ومارسيل ورفيق والعزيزة كمال. ولم تكن "أم جورج" أمًا للجميع، بل رفيقة للجميع، تشاركنا أحاديث الأدب والسياسة، وتُغني الجلسة بتعليقاتها وملاحاتها وابتسامة الأم التي تنشىء في القلوب والقانونية في تلك المرحلة التي امتدت على أربعة عهود.

في مصادفات المثلّث الجغرافي وتلك البقعة الصغيرة، لا نجد فقط ثلاثة أجيال، بل ثلاث طوائف أيضًا: غانم الماروني، ومعلوف الكاثوليكي، ونعيمة الأرثوذكسي. والثلاثة بلا طائفية إلّا رقم السجلّ. وما عدا ذلك رقيّ الأنفس العالية والبرّ بالذريعة اللبنانية في حق الوجود وأحقية البقاء.

كما تجدها في كلّ مثلث أو مربّع أو جرود أخرى، تعثر في السفح على بوابات الهجرة وأعمدة الاغتراب. بينما اكتفى عبدالله غانم من الغربة طمأنينة جمّة وألفة كثيرة.

في تلك المرحلة من أوائل الستينات، تعرّفت إلى غالب غانم. كنا نجلس على الشرفة وما تقدّمه من أنس الشرفات الأخرى، وكان هو لا يخرج من غرفته ولا يملّ كتابه ولا يشاركنا مرة في هذار الوقت وصبايا الشرفات المقابلة. ولمّا توالى في المناصب والمراتب الحكومية، وصولًا إلى رئاسة مجلس القضاء الأعلى، لم يكن مرة إلّا مساويًا للمنصب ونموذجًا للمستحقين من ذوي الأهلية والكفاءة. يفرد عددًا من الفصول في "ايام الصفاء والضوضاء". وفي دقّته وخلقه يقدم صورة للحال السياسية بجريدته البسيطة، هاجر نعيمة في المَهاجر. ولو كان الآن حيًا لبحث في الأخبار بقلق عن المرأة الوحيدة التي أحبّها، في مدينة فولتافا الأوكرانية التي درس في جامعتها. وأما معالفة عين القبو من أعمام أمين، فسافروا إلى كوبا وبوسطن، كما يروي في "جذور"، واكتفى والده بالسفر إلى مصر، حيث عاد مع عروسه الجميلة من آل الغصين.

تتشابه حكايات البيوت اللبنانية، ليس فقط في وطى صنين، بل في جميع السفوح والسهول. طموح بلا حدود ولكن من دون الشره الذي هو شر هذه الأيام القاحلة. يمر غالب غانم مرورًا سريعًا على ذكر عمر في القضاء. لم يتأهل لمقعد نيابي أو حقيبة وزارية. منذ متى يا عزيزنا -إلّا في النوادر- كان العمل السياسي "شرعة المستحقين". ألم ترَ كيف نخر سوس الخواء والفساد والسفه والقسوة جسد السلطة ونفوس سلاطينها؟ الآتون من بيوت العلم والمعلمين لا مكان لهم إلّا في غفلة عن شره الفجعانين.

في صفاء العقل وضوضاء الشعر، يتذكّر غالب غانم لبنان الذي مضى. ويقدّم إلى قرائه أشخاص المرحلة الذهبية كما عرفهم. وكما أحبّهم. هنا هو تلميذ "المعلّم عبدالله" في أن لا سرور مثل سرور القلب، وليس رجل القانون والأحكام. الصفاء أولًا وأخيرًا.

"أيام الصفاء والضوضاء"، دار سائر المشرق.

سمير عطالله/النهار

الأربعاء 30/11/2022