­

Notice: Undefined index: page in /home/lbnem/domains/monliban.org/public_html/monliban/ui/topNavigation.php on line 2

الاستقلال على عتبة الثمانين: ما هي شرعة المستقبل

بقلم الدكتور داود الصايغ

أعمار الأوطان لا تقاس بأعمار البشر. لأنه كلّما مرّ الزمان عليها كلّما تجزّر البنيان في طيّات الزمان. وأعتاب الثمانين على بدأ الاستقلال تبدو اليوم كأنها مثل أمس الذي عبر، كما جاء في الكتب السامية. الإنسان يتهيّب أمام مرّ السنين لكن الأوطان كلّما عتقت كلّما تجوهرت. ففي الشرق كياناتٍ مصطنعة من حظّ لبنان أنه ليس منها. وإذا كانت حدوده البحرية الجنوبية رُسمت مؤخّرًا، فإن البحث في حدوده الكيانية يعود إلى أزمنةٍ أقدم بكثير.

ولكن المناسبة اليوم لعلها تنتـشلنا قسرًا من أيام الضلال وشرود العقول لتضعنا أمام مرآة ذواتنا بالموقف المرير الذي وجد نفسه رئيس الحكومة مأخوذًا إلى اتّخاذه أمام مؤتمر الجزائر وهو موقفٌ لو تمّت مراجعته بعكس الاستغاثة لكانت فرصة ثمينة أمام رئيس الحكومة اللبنانية ليُخاطب المجتمعين من منارة سبق وزُودت بالشمس وهي لا تنطفئ. وليُذكّرهم بالتالي بأن لبنان كتب دستور العرب وأن المؤسـّسين بشارة الخوري ورياض الصلح شبكا أيديهما بأيدي الملك فاروق والملك عبد العزيز آل سعود والرئيس السوري شكري القوتلي وملك العراق وأمير شرقي الأردن وملك اليمن ليسجّل في المادة السابعة من ميثاق الجامعة بناءً على طلب لبنان واحترامًا لخصوصيته مبدأ الإجماع في التصويت وذلك كما روى الرئيس بشارة الخوري في مذكّراته (حقائق لبنانية). فالخصوصية تلك هي ثراء للعرب كما ورد في البيان الختامي لقمة الدار البيضاء في أيار ١٩٨٩ الذي سبق مؤتمر الطائف وجعلت الملك عبد العزيز يقول في أيّامه: "لو لم يكن لبنان موجودًا لوجب إيجاده".

لم يكن الوقت وقت المراجعة في تلك القمة وبخاصة أمام من تسبّبنا بإقفال الأبواب أمامهم. نعم نحن المسؤولون ولو مع الظلم الكبير الذي وقع علينا من أقرب الأقربين الذين أحدثوا خرابًا لم يكن من السهل إصلاحه حتى الآن، ومن أبعدين طارئين دخلنا معهم قسرًا في الصراع فبتنا عاجزين عن تسيير أمورنا فإذا بنا نستغيث. فلو وُضع لبنان اليوم على منصّة العالم وسأله الحاضرون: ماذا عندك لتقدّم لنا أيها الوطن الصغير في الشرق العتيق، لكي تعود إلى ذاتك أولًا كما عرفناك ولكي نعود إليك من ثمّ وقد عُدّت إلى ذاتك بعدما وقفت أمامها؟ فبماذا نُجيب؟

نجيبهم أولًا بما علينا:

لقد كَبَوْنا. هذا صحيح. ومن الخطأ عدم الاعتراف بالكبوة.

كبَونا بضياع مسؤولية المسؤولين منذ سنوات. وافتقادنا إلى الأكفياء والمستقيمين في إدارة شؤوننا. وذلك بعدما حلّت المحاصصة محلّ الوفاق. والحصّة لمن لا همّ له سوى مصلحته إزاء الآخر، تأثُره وتضعه بعيدًا عن الاهتمام بمصلحة لبنان. فتحوّل الحكم حرصًا على مجموعة المصالح الخاصة. وتحوّلت الوزارات احتكارات. وتحوّل الوزراء إلى ممثّلي القيادات. وتحوّل مجلس الوزراء إلى مجموعة مندوبين لمن سمّاهم وزراء. ولم تأتِ القدوة من فوق، لأن "الفوق" كان همّه نفسه على أي كرسي جلس وكراسي "الفوق" ليست محصورة بواحدة.

وبالتالي انعدمت المساءلة. ووقع القضاء في حيرة. أنا لا أسلّم "فلانًا" قال أكثر من "زعيم" إزاء مطلوبٍ من القضاء. هذا كلّه كُتب وتردد في هذه الصفحات وغيرها.

على أنه لم يكن انعدم المسؤولية في الممارسة وحده هو سبب الكبوة، بل كان هنالك استسهالُ مدّ أيدي الخارج إلى لبنان ومدّ الأيدي اللبنانية إلى الخارج.

فلقد بات مُسلَّمًا به وهذا ما يُطرح دائمًا في وسائل الإعلام على سبيل المثال "متى ستأتي كلمة السرّ". كلمة من الخارج؟ من واشنطن أو باريس أو الرياض أو طهران أو القاهرة؟ هل حقًا أن التدخّل الخارجي أصبح جزءًا أساسيًا من تفكير اللبناني، بحكم تجارب التاريخ القديم والحديث، منذ المتصرّفية إلى الحكم العثماني المباشر إلى زمن الانتداب، ثم في زمن الاستقلال من محاولة الانخراط في حلف بغداد إلى الموجة الناصرية إلى أحداث ١٩٥٨ واتّفاق جمال عبد الناصر مع السفير الأميركي روبرت مورفي على انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية في أعقاب "أحداث" ١٩٥٨. نعم هذا حصل وحصل التفاهم اللبناني المصري بعد ذلك لينعم لبنان بالهدوء، قبل أن تأتي مقدّمات العواصف مع اتّفاق القاهرة عام ١٩٦٩ ومجيء الفلسطينيين بعد أحداث الأردن في صيف عام ١٩٧٠ ثم ذلك الطلب الأميركي المعروف إلى سوريا بالتدخّل لإحلال السلام في لبنان وفقَ الرسالة الشهيرة لهنري كسينجر إلى حكمت الشهابي في مطلع ١٩٧٦. نعم هم فتحوا الأبواب، ونحن لم نُحسن غلقها حتى الآن. فلبنان ليس بلدًا محصّنًا. هذا كلّه علينا. ولكن ماذا لنا عليكم؟

ولكن أيها الأصدقاء انتبهوا قليلًا هنالك ما لنا عليكم:

الأول هو مسؤولية إقفال باب التدخّلات الخارجية. لا تقولوا لنا إن ذلك ليس من شأنكم. لبنان الحالي بما هو عليه ليس بمُستطاعه إرجاع حزب الله من قوّة عسكرية إقليمية تمتدّ نشاطاتها من العراق إلى اليمن إلى سوريا ومركزها الأساسي هو في لبنان. وهو يُضاهي الدولة اللبنانية قوّةً لأنه يتحدّى إسرائيل القوّة الأكبر في الشرق صاحبة السلاح الذرّي. وهو على اللائحة السوداء لمعظم دول العالم. هذا من شأنكم، ليس حبًا بنا بل لأن مصالحكم تحتّم عليكم تهدئة هذه المنطقة من الشرق. كون الحروب إذا اشتعلت هنا فستنتقل نيرانها إليكم. ولبنان هو في قلب هذا التفجير. هنا نحن لا نستعطي بل نحذّر. مصالحكم تقضي بإقفال الباب اللبناني أمام التدخلات الخارجية. وقضية حزب الله في لبنان ليست مقتصرة على مزارع شبعا غير المعروفة المُلكية على كلّ حال. إنه موجودٌ لأغراضٍ أُخرى تعرفونها جميعكم وعلى رأسكم العاصمة الأقدر واشنطن. وتعرفون كيف أصبحوا على ما هم عليه ومن فتح الأبواب لهم في الأساس.

إن مُقرّري العالم لن ينكبّوا على معرفة تاريخ لبنان القديم وما وردَ في حدوده في العهد القديم (سفر القضاة) بل لعلّ ما يجذبهم هو الأبراج المرتفعة في الصحاري العربية وحركة رؤوس الأموال المُتزايدة واحتلال الدول الصغيرة الحديثة النشوء مراكز متقدّمة في العلاقات الدولية. توقّفوا معنا قليلًا: ها هو البابا فرنسيس يستجدي الحوار والأخوة الإنسانية من بلدَين شقيقَين حديثَي النشوء هما الإمارات العربية المتّحدة عام ٢٠١٩ والبحرين اليوم. حسنًا هو كلّ ذلك. ولكن البابا يعرف أن هنالك بلدًا في هذا الشرق تكوّن منذ القرن السابع عشر على هذا التنوّع البشري. ولا مثيل له في العالم حيث النزعات الانفصالية تسود بلدانًا مسيحية (وكاثوليكية) يعرفها البابا مثل إسبانيا وبلجيكا واسكتلندا الأنغليكانية. وفي الوقت الذي ينتصر فيه اليمين المتطرّف في إيطاليا ويتركّز خطاب رئيسة الحكومة الجديدة فيها على المهاجرين -والمسلمين- وينتصر اليمين المتطرّف في هنغاريا والسويد ويهدّد فرنسا نفسها، ألا يجدر تذكّر كلّ من سبق وقالوا أن لبنان هو نموذج في الحرّية والتنوّع لمحيطه وللعالم، ولعلّه هنا يصعب تعداد من قالوا ذلك وتكرار أقوالهم.

بالطبع ليس عندنا موارد طبيعية. لا نفط ولا غاز. والثروات الموعودة هي موعودة، حتى نصبح بلدًا نفطيًا. جميع الخبراء يقولون ذلك، بالرغم من أهمّية الحدث على الصعيد الإقليمي وعلى مستوى الهدوء في لبنان وهذا ما يتّفق عليه الجميع.

ولكن ربما تقولون في لغة المصالح ماذا عندكم "لتبيعوننا" إيّاه، حتى نُقدِم؟ نجيب وبكلّ ثقة وصلابة: نحن بنينا على الصخر عبر الأجيال وتقلّبات خُطى الدهر كيانًا هو مصلحة البشرية جمعاء. أنظروا ماذا حدث في بريطانيا: جاء هندي أسمر اللون، هندوسي الديانة ليرأس الحكومة البريطانية أي السلطة التنفيذية الحاكمة في بلدٍ يرأس الملك فيه الكنيسة! هذا حصل لأول مرّة في تاريخ بريطانيا. نحن في هذا الشرق القديم، فتحنا الأبواب بينكم وبين هذا الشرق. ولا أحدٌ سوانا. أهل الشرق والعرب بخاصة أدركوا ذلك. ولعل المستشرقين والمؤرّخين الأوروبيين من فرنسيين وبريطانيين سجّلوا ذلك في شهاداتهم العريقة. وبكلمة كما يُقال في العامية "نحن لسنا أولاد البارحة". نقولها بغضب ليس عليكم بل على الذين لم يعرفوا من فرط الجشع والجهل وانعدام الثقافة وانعدام حسن التبصّر القيادي أن ينجحوا بتقديم هذه الصورة النبيلة إلى العالم إلى عالم اليوم بالذات.

هذا ما عندنا. اللبنانيون الذين سافروا وعمّروا الدنيا. من غيرهم وصل إلى أقاصي الأرض. عندنا الإبداع والريادة والصمود والبناء وإعادة البناء. لقد شاءت الأقدار أن تتجمّع العواصف من حولنا، في تحوّلاتٍ تاريخية تغيّر مسار المنطقة والصراع الأساسي فيها الذي يسود منذ خمسة وسبعين عامًا، وفي لبنان مسؤولون ليسوا على قدر المهمّات التاريخية في أضعف الأوصاف. فللتاريخ مجاري كانت روائحها في أزمنة البنائين عندنا وعند غيرنا تفوح طيبًا لكن التاريخ هذا لعله ينفر من روائح مجاري اليوم.

الدكتور داود الصايغ

الثلاثاء 22 تشرين الثاني 2022