يبقى هذا الجيش أسطورة حقيقية تتناقل أخباره الأجيال، لا بقوّته عديدًا وعتادًا، بل بصبره وصمته الذي يروي قصص بطولات وملاحم صمود على القهر والإهمال من قبل مسؤولي هذه الدولة.
يبقى هذا الجيش حاملًا صورة الأب في العائلة، بحيث لا يمكنه التساهل ليحافظ على تضامن أهل البيت، ولا يمكنه أن يضعف حتى لا يسقط جميع المتكلين والمتكئين عليه.
يبقى الجيش البحيرة حيث تتجمّع فيها أحزان ومشاكل الوطن، وأبنائه وبناته ولا يُظهر على السطح سوى النقاء وسكون المياه التي لا تلاعبها وتداعبها سوى النسمات اللطيفة.
تبقى صورته محفورة بأذهان الأجيال الغابرة التي تربّت على مبادىء الشرف، وضحّت بالغالي، وقدّمت الشهداء على مذبح الأنانية المعشّشة لدى ضعفاء النفوس، ولا تنتظر إلّا القليل من وفاء الأجيال القادمة.
لا يستكين هذا الجيش؛ فمن مهمّة إلى مهمّة، يتحمّل مسؤولية أمن الوطن والمواطن، وينجح حيث يفشل الآخرون، الجميع من دون استثناء طعنوه بصدره مواجهةً، وبظهره غدرًا، ولم يحاسِب بل تحمّل، علّه بذلك يأتي وقت الاستيقاظ من نوم التقاعس والخيانة.
لا يميّز بين منطقة وأخرى، أو بين مجموعة وغيرها، بل ينكبّ على مهمّاته وينجزها على أكمل وجه، ولا ينتظر شكرًا لأنّه يؤمن بواجبه الوطني فينقذ مَن ينقذه من جهله أولًا، ومن تعدّيه على نفسه ثانيًا، ليعود فيضمِّد جراحه، ويعضّ على جرحه الدامي والدامع بحكمة قلّ نظيرها في رحاب الوطن.
ما مِن جيشٍ تحمّل ما تمكّن هذا الجيش المقدام على تحمّله؟ قارع الإرهاب فبطش فيه، حمى الأمن وتحمّل جمر الفتن فأطفأها عاري اليدَين. أنجز الانتخابات النيابية والبلدية وأنقذ العديد من الانتخابات الرئاسية من دون أن يطالب بحصة أو يلتفت إلى منّة.
هل يا ترى يبقى جيشٌ متضامن في أي دولة وهو يشعر بالجوع؟ هل تجد جيشًا في العالم ينفّذ المطلوب منه والملقى على عاتقه بأمعاء خاوية؟ هل يتحمّل جيشٌ مسؤولية وطن ولا يجد دواء يعالج فيه مرضاه، أو دعمًا يسند أطفاله بمدارسهم؟
هذا هو الجيش اللبناني يا سادة.
ترمون عليهم المسؤولية التي لا تحرّكونها بأحد أطراف أصابعكم، ترمون عليه المهمّات التي تثقل كاهله نتيجة خلافاتكم العبثية المستمرّة.
تطالبونه بالدفاع عن الوطن ولا تقدّمون الأموال الضرورية لشراء الأسلحة.
تطالبونه بتعزيز الأمن ولا تأمّنون له احتياجاته أو حاجات عائلته.
تتنمّرون عليه جراء المساعدات القليلة التي يؤمّنها لحسن سير العمل من دون أن يرتهن لمقدّميها.
تحمّلونه مسؤولية ما يحصل من أحداث شاركتم أنتم في صنعها، ومن دون أن تمدّوه حتّى بالمعنويات، أو تغطّون تحرّكاته بالقرارات السياسية، بل تتركونه لقدره وحيدًا في ساحة النزال، مثخنًا بالجراح، يلملم مصائبكم التي لا تنتهي.
غريب، غريب جدًا أمر هذا الجيش، وكأنه يعيش ويصمد من خلال تنفّسه الهواء فقط، فيما يأمل أن يتنفّس الصعداء لحظة التفاتكم إليه.
توقفوا أيها السادة عن لعب الروليت الروسية وأنتم توجّهون المسدس إلى رأسه، فقد تشدون الزناد بلحظة لا تدرونها ولا ينفع فيها الندم.
أعدّوا خطّةً مالية لتعزيز قوّته ونفّذوها ولا تبقونها حبرًا على ورق، عزّزوا عناصره معنويًا وماديًا حتى لا يسقطوا فريسة الجوع والمؤامرات، احموه من الذين تحمونهم أنتم سواء في مقاطعات المخدّرات أو المحميات المقفلة، عزّزوا مناعته ولقّحوا عناصره بلقاحات المناعة ضدّ الأعداء والأغراب المقيمين والطامعين بخيرات البلد.
ساعدوه، فيساعدكم بحماية الحدود والدفاع عنها، ويريحكم من شرور العصابات ومفتعلي الشغب والمتعدين على الناس وحقوقها والقوانين وشرائعها.
أقرّوا القوانين التي تسمح له بالتحرّك من دون معوقات ومن دون إرباك أو تردّد، أقروا القوانين التي تساهم بدعمه وحماية عائلته اجتماعيًا وإنسانيًا.
والأهمّ من ذلك كلّه، التفّوا حوله واحموه واحموا ظهره فيعرّض صدره للخطر ويحميكم ويحمي كلّ البلد، وكلّ أبنائه، وكلّ أراضيه بكلّ قوّته وفي كلّ الأوقات. فنسلم جميعنا ويسلم لبنان ونحيا بكرامة مع أولادنا وأحفادنا، فيبقى ويحيا لبنان سيدًا حرًّا مستقلًّا.