ذاكرة من حبر، وجع من كتاب مجاعة لبنان: شاهدة وشهداء
جورج س. غانم
في العام 1914 فرض حلفاء الحرب العالمية الأولى من دول الغرب، الحصار البحري على لبنان لمنع وصول المواد الغذائية إليه من مصر، حيث كانت تعمل لجان الشتات لدعم اللبنانين بحجة منع تسرّبها إلى الأتراك.
وتلاه في العام 1915 صدور قرار عن السلطنة العثمانية بمصادرة كلّ المؤون من البيوت على غرار الجراد الذي صادر اليابس قبل الاخضر من محاصيل ذلك العام، ليُستتبع بحصار يمنع وصول الحبوب من سوريا مستكملًا بقرار مضمونه الإجهاز على بذور الاستقرار والاستقلال الذي كانت تعيشه مناطق جبل لبنان.
أما في العام 1916 عمدت السلطنة العثمانية إلى استبدال العملة الذهبية بتلك الورقية، فأضعفت القدرة الشرائية حوالي 20 مرّة، ليُضاف إلى هذه المصائب المتتالية وصول قوافل الإخوة الأرمن المذبوحين على يد العثمانيين إلى لبنان الجائع والمريض بالتيفوس والملاريا اللذين قضيا على ثلث الشعب الحرّ حينه.
الكثر، قد كتبوا عن هذه المجاعة البشعة ونتائجها الكارثية من مختلف النواحي: الجيوسياسية، الاقتصادية والاجتماعية أو حتى الإحصائية منها. كما أعلم أن الكثير أيضًا من الدول قاموا بدراسة ظروف هذه المجاعة وتأثيراتها السياسية، العسكرية وصولًا حتى الأخلاقية.
لكن لم أفاجىء البتة بنبل السيّدة ميريام بيز، الشاهدة الإنكليزية عليها، زوجة اللبناني الياس بو صادر ابن بلدة الشوير المتنية، لكني فوجئت برهافة كاتبة تتمتّع بهذه الرقّة قد تمكّنت من الكتابة بلغة المشاعر وبحروف الصدق.
نعم، لقد درسنا في الصفوف الثانوية قصيدة للشاعر الفرنسي بودلير، يُظهر فيها ما يسمّى: "جمال البشاعة" من خلال وصفه لجثّةٍ على قارعة الطريق.
فها أن السيّدة ميريام قد أعطت روحًا لوصفها قبح الشعور بالجوع والصبر على الألم وتحمّل موبقات المضايقات واستمرّت هذه السيّدة بكتابة أيقونات الفقر المغمّسة بألوان المعاناة ومزينة بالأمل المفقود، لم تترك خيط إيمانها ينقطع منذ لحظة وصولها إلى لبنان، بل ظلّت متمسّكة باتّكالها على الرب يسوع والتماس وجوده اليومي الدائم بحياتها. ويمكن اعتبار هذا الكتاب شهادة حياة يُضيىء على الحياة الإيمانية التي مارستها الشاهدة ميريام بكلّ قوّة وثبات، حيث عبّرت بواقعية عن علاقتها الحميمة مع الرب وتعاطيها الأخوي مع البشر، فحوّلت مصائبها وظروفها القاسية للحظات رجاء متقاسمةً أرغفة جوع المحبّة مع الجميع.
مجاعة لبنان: شاهدة وشهداء، كتاب يستحق القراءة والتمعّن، كتاب يحمل بين دفّتَيه صمود شعب عانى الأمرَين على أيدي الحلفاء قبل الخصوم في زمنٍ طغت فيه المصالح والأرباح على حساب الأجساد والأرواح، من دون أن تتنازل ميريام عن كرامتها فاشتغلت حيث سمحت لها الظروف، وتحلّت بروحٍ قابضة على معنويات عالية لم يستطع الجوع النيل من قوّة حرّيتها وإيمانها في حفلة القهر الجماعي.
مجاعة لبنان: شاهدة وشهداء، كتاب يؤخذ منه العبر على أن الروح الإنسانية لا تقهر ولا تسجن بلغة معيّنة أو بقومية مزيفة الإنسانية. فهو كتاب يؤكّد روح البشرية العملاقة التي تتخطّى الطبقات وزيفها، وتنتصر على الجشع بالعطاء وتقاوم الضعف بالصبر والاتّكال على الله.
نعم، لقد حوّلت هذه المجاعة ريادة هذا الشعب الخلّاق، صاحب الهمم ومخترع المبادرات إلى شعبٍ مشرّد جاب بلاد الله الواسعة، لكن هذا الكتاب أظهر نعمة تبادل خيرات الأرض مهما كانت شحيحة، وذلك لحظة وصول الإخوة الأرمن وغيرهم من مُشرّدي سلطنة الظلم التي لم تمتهن سوى المجازر والقبائح طوال تاريخها.
مجاعة لبنان: شاهدة وشهداء، كتاب يروي قصة شهداء غرسوا رفاتهم في تراب الوطن فأنبتوا للأجيال القادمة أشجار عنفوان البقاء وثمار الصمود. كتاب يُظهر بأم العين أن مسؤولي لبنان لم يتّعظوا من الماضي، وكأن مئة عام مرّت كيوم أمس في ضمائرهم. فتراهم اليوم يستمرّون بالمناكفات العقيمة وامتهان إضاعة الفرص، لا بل ثابروا على تخريب مقومات الدولة عمدًا لبيعها بسوق نخاسة دول صاحبة أفواه فاغرة كالقبور، وفقط للحصول على حفنة من العمولة لتخدير شعبهم الغنمي (نسبةً للغنم) ودفن كرامتهم بقبور فخمة.
يا سادة،
تفرّسوا من حولكم ها أن الدول تعود إلى محاصرتنا من جديد ومن داخل الوطن، يحاصروننا بالسياسة، بالدبلوماسية وبالاقتصاد. يحاصروننا باللاجئين وحقوقهم، بالنازحين ومطالبهم.
ألم تلاحظوا أن الحدود مشرّعة المعابر ومهرّبيها كعلقة تمتصّ ما تبقّى من خيرات اقتصاد يتهاوى علنًا بضربات السارقين الوقحين والمتآمرين مع التجّار الفجّارالمتكافلين معهم بالسرقة والنهب عبر مضاعفة الأسعار.
ألم تنتبهوا للمضاربين ضد العملة الوطنية، حيث ساهموا بسحب ذهب قيمتها وحوّلوها إلى أوراق لا تساوي قيمة ما طبع عليها من أرقام وهوية.
ألم تكتفوا بعد من الإساءة الى سمعتنا، حيث لاكتنا ألسنة البشرية وتناقلت سيئاتنا من صناعة وتهريب المخدّرات من بلدٍ بنى سمعته على تصدير الحرف وامتهان التعليم ومداواة المرضى وخدمة المحتاجين.
يا سادة، وإذا كنتم كذلك،
لا أرغب التغني بإنجازات الماضي، جل ما أود إظهاره هو ما جنت أيديكم من موبقات، فلا كرامة الوطن مصانة ولا شعبه محمي.
انظروا وتمعّنوا جيدًا، لم يعد الإنسان يقدر على العيش في بلدنا مكتفيًا وحتى لو كان فلّاحًا، ولا يستطيع رب العائلة تطبيب عائلته بعد أن أفلستم الصناديق الضامنة، ولا يمكنه تعليم أولاده نتيجة مضاعفة الأقساط، وحتى ليس بمقدوره تأمين وقود التدفئة في الشتاء القادم.
وفيما تبقّى من الوقت قبل الارتطام العظيم،
اتعظوا يا سادة، بتواضع السيدة ميريام التي تقاسمت لقمة جوعها مع أبناء وطننا، وخدمت من احتاج المساعدة واهتمّت بتلقين أولادها تعاليم الحياة الأخوية مع تدريسهم الحروف الأولى من أبجدية الإنسانية المتعثّرة في يومنا هذا.
مجاعة لبنان: شاهدة وشهداء، إنه كتاب يستحق القرءاة من الجميع وخاصةً ممن خانتهم الذاكرة، لأنه يحتوي ذاكرة من حبر.
جورج س. غانم
الجمعة 22 تموز 2022