الجريمة المنظّمة: لبنان خيرُ دليل
أنطوان كميل أبو فيّاض
يتكوّنُ المجتمع اللّبنانيّ من عدّةِ أحزاب سيّاسيّة عقائديّة حزبيّة، تخضعُ بغالبيَّتِها لقوّةِ الدّين، توارَثَتها الأجيال، منها من اضحمّل واختفى، ومنها من لا يتعدّى تعريفُهُ بحزبِ الكوادر، أمّا الشّريحة الأكبر تبقى للأحزابِ السيّاسيّةِ الكبرى المُتعارف عليها اليوم والمدعومة دينيًّا، تتنافسُ فيما بينَها لا حُبًّا بالمصلحةِ العامّة ولا طمعًا بالمشروعِ السيّاسيّ، بل محاولات متكرّرة لهدمِ وإلغاءِ الآخر.
لا تختلفُ هذه الأحزاب عن مفهوم الكارتيل، والذي يعني توزيع السّوق جغرافيًّا دون تعدّي الطّرف على الآخر، فكلٍّ منها يسعى لاكتسابِ شريحة من الشّعبِ اللّبنانيّ، تستزلمُه، تمارسُ عليهِ جميع طقوس غسل الدّماغ مع الكثيرِ مِنَ الّتاريخِ المشوّه الذي لا يصبُّ سوى بمصلحةِ الحزب وبإيديولوجيّاته المبنيّة على مثاليّةٍ لم يسعَ أحد الّتوجه نحوها، ليُصبح الفرد المنتسب مجرّد آلة تكرار لما زرَعتهُ ماكينات التّعبئة الفكريّة والأساسيّة المتلطّية خلفَ ستار التّنشئة السيّاسيّة لأعضاء الحزب.
أمّا بالنسبةِ إلى تحديدِ نوع جريمتهم، فهيَ بالطّبعِ منظّمة، لأنّهم يدرون ماذا يفعلون، فهم مجموعة من الأحزاب ذات مشاريع مشبُوهة من دونِ حسّ الوطنيّة، عابرة بهِم جميعهم، تتمُّ إدارتها عن طريقِ رؤساء الأحزاب والحاشيَة التي تتبعهم، فضلًا عن ممثّليهم في مجلسَي النّوّاب والوزراء. هدفهم سيّاسي بحجّة السّيطرة على القرارِ السيّاسي النّهائي والهيمنة على الماليّةِ والخزينة. فهي تجمع الحشد، تخلُق له قصّة سرديّة وصفيّة وتقنعهُ بغاياتٍ وأهدافٍ عبر طرح المُثُل العُليا.
في لبنان، الجريمة المنظّمة ليسَت خارجة عن القانون، فهي شرعيّة حتمًا، لا يلاحقُها أحد، ولا تستدعيها أيّ شُعبة، لا تخضعُ لأيّ نوع من المحاكمة، أصبحت الآمر والنّاهي في قضايا المواطنين كافّة، فالأحزاب تتقاتل علنيًّا وتتهجّم على بعضِها، طرف يخوّن الآخر، والآخر يتّهمه بالعمالة، حتّى أنّهم أفلسوا سيّاسيًّا لدرجةِ الانحطاط الأخلاقيّ، أوصلهم من درجة حزب سيّاسيّ إلى عصابات وشبكات إجراميّة نالت من أدنى حقوق المواطن، فهي تتملّقُ وتتسلّقُ العاطفة المواطنيّة بثَوب النّعاج، حتّى تخلع رداءَها وتُظهر عن مكرها في استغلال وجعهم النّاجم عن معضِلات يوميّة هم أسّسوا لها عبر سرقات واختلاسات ورشاوى تقاسَموها على طاولاتِ الحوار والوفاق السّريّة.
ومن الأشكالِ التي ما زالت تطبعها داخل المجتمع اللّبناني، على غرارِ الجريمة المنظّمة، هي الجريمة السيّاسيّة بحقِّ الدّستور ومبدأ فصل السّلطات والهيكليّة القضائيّة اللّبنانيّة بمختلفِ فروعها، فتُعيّن قُضاة وتُعرقِل محاكَمات وتسهّل أُخرى، تُشرّع مواد قانونيّة بحسبِ مصالحها الاقتصاديّة وتدفُنُ قوانين تصبُّ في مصلحةِ المواطن وتخدمُهُ. وفي الخطوةِ التّالية، تسعَى هذه الأحزاب للتّوزير بطريقة متعاقبة كي يتسنَّى لها تصميم هندساتها الخاصّة وفقًا لمعاييرها ومعايير من ساهموا ووافقوا على حقائِبها.
وتتبعُها جرائم الحرب، التي اقترفتها تلك الأحزاب بحقّ بعضها دون أدنى شعور بالإنسانيّة، فقاموا بتعذيبِ الشّعب اللّبناني فكريًّا وجسديًّا، واغتصبوا حقوقهِ المدنيّة بإدراكٍ تامّ، كضمان إجتماعيّ غير مبنيّ على أُسس واضحة ومتينة، وسيّاسة دعم استنزفت الخزينة اللّبنانيّة على مدى أربعون عامًا، فاللّبناني وغير اللّبناني استفادَ من الدّعم في وقتٍ كانَ الأخير تُفتح له اعتمادات من الجيوب اللّبنانية أو عبر نظام الإستدانة من الخارج وترسيخ النّظام الرّيعي.
واستغلالًا للمواطن المُرهق من ويلاتِ الحرب، أوهمُوهُ أنّهم أنهوا حروبهم بسيناريو يأخذُ طابع الإتّفاق، مفادهُ أنّهم وضعوا مصالحهم الحزبيّة جانبًا وتخلّوا عن بعضِ مكتسبات الحرب التي جنُوها كغنائمٍ لا تحظى على أيّ نوعٍ من الشّرعيّةِ، سرقوها من اللّبنانيّين، فوقّعوا على الاتّفاقِ حاملين كلّ منهم طغينة على الآخرِ، طغينة مقنّعة بمصالحاتٍ سطحيّةٍ.
في نهايةِ المطاف، لقد أبادوا سيّاساتهم الماليّة الخاطئة وبانحرافِهم الإجتماعيّ، شعبًا بكامِله، أبادوه معنويًّا ولم يكتفوا بذلك، بل أثقلوا عليهِ الهموم الصّحيّة وشتّى أنواع العذاب اليوميّ. لقد خانَت هذه الأحزاب القِيم الوطنيّة وعزّزت القِيم التي تُقوّيها. وجميعُهم خلالَ الحرب وبعدها، خانوا مبدأ الدّولة وغيّبوا دولة القانون وألبسوه شريعة الغاب.
أنتجت هذه الأحزاب فسادًا مطابقًا للمواصفات العالميّة للفساد، وطبّقوا الإرهاب على مساحةِ وطن لتمريرِ أهدافهم السيّاسيّة، لكن ليسوا بدائمين، مجرّد عابري سبيل، فغيرهم سبقوهم ولم يأخذوا ممّا جنوه بالحرام فلسًا واحدًا، ففلس الأرملة بقيَ على هذه الأرض حتى لو في جيوبِهم، لكن سيعود حتمًا إلى كنفِ الدّولة عاجلًا أم آجلًا، ومصير الكارتيل محسوم في نهايةِ المطاف، فبعد كلّ طلعةٍ تقابلها نزلة، والوقت كفيل بتدميرِ أعظم الممالك الأرضيّة.
أنطوان كميل أبو فيّاض
الأحد 6 شباط 2022