دار الفتوى تلتقط عصا القيادة بعد اعتزال الحريري
مذ قرّر الحريري الابن إقفال البيت السياسي لعائلته، انتقلت المرجعية السنّية للفور إلى دار الفتوى. ما قاله دريان على مسمع ميقاتي والرئيس فؤاد السنيورة بعد صلاة الجمعة، أرسل إشارة صريحة إلى أن صاحب الدار أراد استعادة المرجعية ما إن أوحى اعتزال الحريري بأن الطائفة باتت بلا قائد أو زعيم. قال دريان بامتعاض: "إذا ظنّ أحد أن السنّة رزق سائب يعلّم الناس الحرام، فهو مخطئ أيًا يكن. لن نسمح لأحد بالتعامل مع السنّة على أنهم رزق سائب، ولسنا رزقًا سائبًا".
غضب المفتي يضاهيه غضب الرئيس السابق للحكومة في ما أُحيط علمًا به، في الساعات اللاحقة لاعتزاله. من طريق جهاز أمني لدولة عربية كبرى تسعى إلى الاضطلاع بدور دائم حيال السنّة اللبنانيين، تسلّم الحريري شريطًا صوتيًا مسرّبًا وردت فيه محادثة لجعجع مع مجموعةٍ حزبية لديه، يناقشها في خروج الحريري من المعادلة السياسية، ويستخدم ألفاظًا أكثر ما تعبّر عن ارتياحه للتخلّص منه. يضيف جعجع في شريط التسجيل: "نحن نعرف كيف سنأتي بجماعته إلينا، ولدينا وسائلنا". وأضاف: "أعدكم بأنني سآتي بكلّ واحد من جماعته إلى عندي... سينسونه بعد أيام".
المفارقة أن الحريري البكر وجعجع يلتقيان على محاولة خطف اللحظة السياسية، فإذا هما يقعان في الخطأ الجسيم. كانا بطلَي أول خطأ جسيم رافق 4 تشرين الثاني 2017، عندما احتجز الرئيس السابق للحكومة في الرياض. الأول قفز كي يخلفه في زعامة البيت والتيّار فرفضته العائلة، والثاني شجّع للفور على قبول استقالة الحكومة التي أدلى بها الحريري من هناك. كلاهما أظهرا يومذاك اهتمامًا بالتخلّص منه. أما ثاني خطإهما الجسيم فهو قفزهما معًا أخيرًا، مصادفة أو بالتزامن المتعمّد، كي يرثا تركته السياسية.
ليس الدور الجديد للمفتي سوى استعادة لدور مماثل اضطلع به البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير حيال الانتخابات النيابية، لكن في وجهة معاكسة. خلافًا لحضّ صفير المسيحيين على مقاطعة استحقاق 1992، في ظلّ الهيمنة السورية، يدعو دريان طائفته إلى الإقبال عليها. لا يواجه كالبطريرك الراحل عدوًا خارجيًا على نحو ما كانت سوريا، بيد أن أصعب ما يجبهه المفتي الحؤول دون تفتيت الطائفة من داخلها ما إن فقدت مرجعيتها السياسية باعتزال الحريري.
ما يحوط بالموقف الذي يجتمع عليه المفتي ورئيس الحكومة، وكلاهما يتنكّبان الدور الذي يمنع تسيّب الرزق، هو الآتي:
1- رغم الإضاءة الإعلامية والدعائية الفضفاضة على ظهور بهاء في المعادلة السياسية الجديدة، على الأقل كما يودّ أن يوحي، إلّا أن المعطيات المتوافرة لدى المرجعيات السنّية المعنية تنفي أيّ دعم سعودي له أو خليجي حتى. ينطلق الرجل من اعتبارَين ليسا قليلَي الأهمّية، من دون أن يحتّما بالضرورة وصوله إلى كلّ ما يروم الوصول إليه: ثروته والتناقضات الناشبة داخل العائلة. ليس الجميع فيها جارى سعد في قراره، لكنهم أذعنوا له بدءًا من العمّة بهية الحريري. بذلك يحاول بهاء ملء الفراغ الذي افترض أن الطائفة برمّتها -وليس الحريرية السياسية ولا تيّار المستقبل فقط- غرقت فيه.
2- ليس معروفًا لبهاء مصالح في السعودية على غرار ما كان لأخيه، أو علاقات سياسية وطيدة، أو على صلة بأجهزة استخباراتها. ليس معروفًا عن المملكة إعجابها بشخصيته غير المؤهّلة للزعامة وعصبيته وانفعاله، فلم تختره في 25 نيسان 2005 كي يخلف والده الراحل، بل شقيقه الأصغر. بذلك يُفسَّر الموقف السعودي غير المعني بتحرّك بهاء، أنه يريحه ظهور ما لم يسع سعد أن يفعله، وهو إعلان المواجهة مع حزب الله.
يردّد البعض المطّلع أن ما تفكّر فيه الرياض -وهي مرجعية تاريخية أساسية دينيًا وسياسيًا لا غنى عنها لسنّة لبنان مهما تقلّبت الأحوال- حاليًا هو صرف النظر عن الزعامة الواحدة في الطائفة التي أحدثها -إن لم يكن فرضها- الحريري الأب منذ عام 1992. من الآن فصاعدًا، يقتضي أن يستعيد زعماء المدن السنّية حضورهم وحيثياتهم الشعبية، وإعادة الاعتبار إليهم بعد حجبه عنهم ثلاثة عقود: الزعماء السنّة البيروتيون والطرابلسيون والصيداويون. لكن أيضًا لما عُرف في عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات عن الزعماء المحلّيين لعكّار والبقاع الغربي.
3- ما يعني المرجعيتَين الدينية والسياسية الحاليتَين في الطائفة، دريان وميقاتي، عدم السماح بوضع اليد على مقاعد الطائفة في مجلس النواب. لا تزال ماثلة تجربة انتخابات 1992. لم تُبقِ مقاطعة الأحزاب المسيحية الرئيسية حينذاك مقاعد الطائفة شاغرة، بل حلّ في معظمها رجال سوريا وحلفاؤها. (الأخبار)
الثلاثاء 1 شباط 2022