هل يُدرك المسيحيّون اللبنانيّون؟
أغابيوس أبو سعدى المخلّصيّ*
على الرغم من الظروف المأساويّة التي يعيشها وطن الرسالة، لبنان، على كافّة الأصعدة السياسيّة والاقتصاديّة والمعيشيّة، إلّا أنّ قدمَيك حين تطآن أرض لبنان، ينتابك شعورٌ مختلفٌ لا تجده في أيّ مكانٍ آخر على هذه الأرض؛ هي الحالة التي ينطبق عليها قول الشاعر الفلسطينيّ محمود درويش: «على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة».
نعم، على أرض لبنان ما يستحقّ الحياة لا بل أقول أبعد وأعمق من ذلك، على أرض لبنان الحياة نفسها بكلّ تفاصيلها، الحلوة منها والمُرّة. عندما زرتُ لبنان مؤخَّرًا، سألني موظَّفٌ في مطار بيروت: «لماذا جئتَ إلى هذا البلد المدمَّر الفاقد الحياة»، فأجبته بدون تردُّدٍ: «جئتُ أستنشق هواء الحريّة والقداسة؛ جئتُ لأحصل على جرعةِ أملٍ ورجاء». هذه هي نظرتي إلى لبنان، وهي نظرةٌ يشاركني فيها الكثيرون من مسيحيِّي الشرق، الذين يرَون في لبنان وجه الثقافة والحضارة والوجود والكيان والهُويّة...
إنّي، كمسيحيٍّ فلسطينيّ، أنظر إلى لبنان كمحجّةٍ لكلّ باحثٍ عن القداسة والعلم والحريّة. فهل يُدرك المسيحيّون اللبنانيّون أنّهم محطّ أنظار إخوتهم، الذين يُكبِرون فيهم روح الإيمان والعلم والهُويّة والوجود؟ هل يُدركون أنّ عليهم مسؤوليّةً تجاه مسيحيِّي الشرق أجمعين، إذ ينعمون بوجودٍ كنسيٍّ (على سبيل المثال لا الحصر الصرح البطريركيّ المارونيّ، بكركي)، ورهبانيّ (عدد كبير من الرهبانيّات الرجاليّة والنسائيّة، التي تلعب دورًا بارزًا في حياة اللبنانيّين عمومًا والمسيحيّين خصوصًا)، وتربويٍّ (الجامعات والمعاهد والمدارس) وثقافيّ (المنشورات والمؤتمرات...) يمكِّنهم من لعب الدور الأكثر بروزًا على الساحة المسيحيّة المشرقيّة؟
من هنا، فإنّي أدعو المسيحيّين اللبنانيّين إلى توحيد أنفسهم على الصعيد السياسيّ، إذ في وَحدتهم تكمن قوّتنا جميعًا. وكما أنشدت الستّ فيروز للقدس، «عيوننا إليكِ ترحل كلّ يوم»، فإنّ عيون المسيحيّين المشرقيّين ترحل إلى لبنان كلّ لحظة، لأنّهم يؤمنون إيمانًا راسخًا أنّ لبنان، بمقوّماته وإمكانيّاته وموقعه، سيكون قادرًا على دعم الوجود المسيحيّ، إنْ أدرك المسيحيّون اللبنانيّون ذلك ووضعوه على أجندتهم، على الرغم من وجود قضايا أولويّة أخرى تشغل بال المجتمع اللبنانيّ. لذلك، فإنّ المسيحيّ اللبنانيّ مدعوٌّ إلى الانفتاح على تعدُّديّة المسيحيّين المشرقيّين، وتوظيف كلّ الثقل الكنسيّ والتربويّ والسياسيّ في خدمة المسيحيّة المشرقيّة وقضاياها وتحدّياتها، ذلك أنّه الوحيد الذي يمكنه أن يلعب هذا الدور، بسبب القوّة السياسيّة التي يتحلّى بها. إنّها دعوةٌ للتعاضد والتكاتف والمؤازرة والمساندة الأخويّة، وكيف يمكنني عن التغافل عن انفجار الرابع من آب، انفجار مرفأ بيروت، كيف هبّ المسيحيّون في فلسطين لدعم إخوتهم اللبنانيّين لا دعمًا معنويًّا فحسب، بل دعمًا مادّيًّا عبر مؤسّساتٍ فرنسيّة تُعنى بشأن المسيحيّين المشرقيّين. حبّذا لو يمكننا تأسيس منتدى مسيحيٍّ مشرقيٍّ، يضمّ رجال دينٍ ودنيا، يكون قادرًا على محاكاة الواقع المسيحيّ، ودعم قضاياه وتحدّياته، وتثبيت وجوده، على كافّة الأصعدة. هذا لا يعني على الإطلاق عزل المسيحيّ المشرقيّ عن قضايا شعبه ومجتمعه، لكنّنا شهدنا في الفترات الأخيرة اعتداءاتٍ سافرةً على المسيحيّين، هي اعتداءاتٌ وجوديّةٌ بامتياز، لذلك وَجَبَ على القادة الروحيّين والمجتمعيّين والسياسيّين اتّخاذ خطواتٍ جريئةً في سبيل تثبيت المسيحيّين في بلدانهم الأصليّة، لأنّهم ليسوا طارئين كما يدّعي بعض مزوِّري التاريخ، بل هم أصل الأرض وملحها ونورها.
إنّ رسالتي لكم أيّها المسيحيّون اللبنانيّون أن تبقوا أقوياء وألّا تفقدوا رجاءكم لئلّا تُعرِّضونا للإحباط وخيبات الأمل والفشل والانحسار النوعيّ والعدديّ، فنحن ننظر إليكم وننتظر منكم أن تحافظوا بقوّتكم على ما تبقّى من وجودٍ مسيحيٍّ في الشرق. إنّها دعوةٌ لفتح صفحةٍ جديدةٍ في تاريخ العلاقات المسيحيّة-المسيحيّة، تكون أساساتها مبنيّةً على خبرة الجماعة المسيحيّة الأولى كما وصفها لنا سفر أعمال الرسل ٤٢:٢-٤٧.
* رئيس رعيّة مار الياس للروم الملكيّين الكاثوليك في حيفا
الأرشمندريت د. أغابيوس أبو سعدى المخلّصيّ
الأجد 8 آب 2021