مقدّمة مذكّرات الأباتي: مذكّرات حول الإنسان والأرض والحرّية
ليس من عادة الرهبان أن يكتبوا مذكّرات، إنهم مثل المسيحيين الأُوَل "لا مدينة ثابتة لهم" (عبرانيين 13/14) ويعتبرون ذواتهم غرباء عن هذه الدنيا وعابري سبيل على مثال إبراهيم الخليل (عبرا 11: 13-16) هذا بالإضافة إلى ذهنيّة صوفيّة تملي عليهم إعتبار ذواتهم "عمّالًا بطّالين" (لوقا 17/10). ولكن إذا لم يكن لهم مدينة ثابتة، كما يقول بولس الرسول، فإن لهم رسالة عالمية خالدة يقتضي العمل بموجبها حتى الشهادة، وهذه الرسالة لا تقتصر على التأمل والصلاة والتصوّف فحسب، بل تتناول أيضًا، بحدّ ذاتها وبجوهرها، الخدمة بكل أوجهها والمساعدة ونجدة الغير وتخليصهم من المخاطر التي تهدّد حياتهم ووجودهم، فلا مسيحية محقَّقة ومُعاشة دون مسيحيين، ولا مسيحية مارونية مُجسّدة دون موارنة، وأنا عندما فكرت في كتابة مذكرات إنطلقت من مارونيتي لأن المارونية، كما أفهمها، هي في جوهرها تجسّدية على مثال المسيح حاملة للطبيعتين: فهي روح وطريق قداسة، وهي أيضًا إنسان "ووطن وأرض وحرية رسمت هويتها على مولدها وعلى تاريخها حتى النهاية" كما يقول الأب ميشال الحايك. ونحن كنا، خلال الأحداث، كجماعة وكأفراد، في ظروف خطيرة جدًّا دفعتنا، في جوٍّ من فراغ الدولة، إلى الدفاع عن الإنسان والوطن والأرض والحرية هذه القيم التي تجسّدت في لبنان، وأعطت معنى لوجوده.
هذه القيم أو هذه الثروة، كما يدعوها أيضًا الأب ميشال حايك، كانت ولا شكّ قد تضعضعت وتبددت لو لم تلتقي مع لبنان وتستقرّ فيه، فالأرض اللبنانية لولا الماروني لأصابها القحط والبوار ما أصاب غيرها من بقاع الشرق، والماروني بدوره لولا هذه الأرض لظلَّ هائمًا على وجهه حتى الضياع، كما ضاع العديد من أمم الشرق. إنَّ بين تاريخ هذه الأرض-الحصن وبين تاريخ هذا الشعب المناضل العنيد جاذبية "وتزاوج لمساكنة لا إنفكاك منها".
لكلّ هذه الاعتبارات فرض الدفاع عن الإنسان "والوطن والأرض والحرية" ذاته فرضًا لأنه دفاع عن الكيان وعن الذات وعن مجموعة القيم التي عاشها يسوع وعلّمنا بالمثل والقدوة أن نعيشها ونعلّمها.
هكذا فكّرنا وهكذا عملنا وانطلقنا بصورة تلقائيّة، ولهذه الدوافع تحرّكت شخصيًا لأني اعتبرت أن العناية الإلهية قد أعدّتني لدخول هذه الأحداث بالمعطيات التي وفّرتها لي: إن من جهة المحيط الذي نشأت فيه، أو من جهة التربية التي تربّيت عليها في البيت وفي الرهبنة اللبنانية أو من جهة الدراسة والتخصص في تاريخ الشرق عامةً وتاريخ المسيحيّة وأصول الموارنة وكيف تجمّعوا من كافّة أنحاء مقاطعة أنطاكية الرومانية، وتحصّنوا في جبال لبنان.
دخلتُ الأحداث كمحرّك أعطيَ معلومات لم يعرفها إلاّ القلّة، وعاش أحداثًا لم يعشها عن قربٍ إلاّ القلّة، وإذا لم أدوّنها بدقائقها وتفاصيلها في هذه المذكّرات فذلك تحاشيًا للخلافات والنزاعات، وما أكثرها بين الموارنة، ولأن تفاصيلها، كما قيل، يسكنها ولا شكّ جيش من الأبالسة.
ولكن عن أيّة أحداث أتكلّم في هذا الجزء الأول من المذكّرات؟ وما هو إطارها االخارجي الزمني والمكاني؟ ومن أيّة زاوية نظرت إليها؟
أحصر كلامي بلبنان المعتدى عليه أرضًا وشعبًا، وبالأزمة التي حرّكها الفلسطينيّون ابتداء من النصف الثاني من الستينات، وأنهيه باستشهاد الشيخ بشير الجميل الرئيس المنتخب لجمهورية لبنان في 14 أيلول 1982. وقد كنت خلال هذه الفترة الزمنيّة إمّا عميدًا لكليّة الآداب في جامعة الروح القدس أو رئيسًا عامًّا للرهبانية اللبنانية المارونية وعضوًا في الجبهة اللبنانية، وفي كلتا الحالين، مسؤولًا في المجتمع المدني اللبناني.
دخلتُ الأحداث بسبب الفراغ الهائل من جهة، وبسبب الخوف أو تنصّل المسؤولين من عمل الواجب المفروض تجاه إلحاح المجتمع المظلوم والمتألّم، ولم أتصرّف إلاّ برغبة ملحّة من رؤسائي بعد رجوعي من الاختصاص في روما، عندما قصد البطريركيّة المارونيّة بعض الشبّان اللبنانيين مدفوعين بغيرة صادقة وبشعور خفيّ بالخطر المحدق، طالبين الإرشاد والتوجيه من غبطة البطريرك الكاردينال مار بولس بطرس المعوشي، الرجل القوي والشخصيّة القائدة والبعيدة النظر، لأن الأحداث بدأت تتطوّر بسرعة، بعد حرب سنة 1967، وإتّفاق القاهرة سنة 1969، نحو الصراع المفتوح مع الفلسطينيين الذين كانوا يفتّشون عن وطن بديل، خصوصًا بعد فشل محاولاتهم لفرض سيطرتهم على الأردن في أيلول العام 1970.
أرسل غبطة البطريرك هذه المجموعة من الشبان إلى قدس الأباتي بطرس القزّي الرئيس العام على الرهبنة اللبنانية المارونيّة، الذي أرشدهم بدوره إلى جامعة الروح القدس حيث كنت في ذلك الحين عميدًا لكلّية الآداب وأستاذًا للتاريخ ومكلّفًا من رئيس الجامعة الأب إسطفان صقر بالتحضير لإنشاء وإفتتاح قسم التاريخ وعلم الآثار. وقد طلبا منّي رسميًّا الإهتمام بأمر هؤلاء الشبان وإرشادهم ومرافقة إجتماعاتهم الدوريّة.
هكذا بدأنا الإجتماعات المنظّمة وحضّرنا التصاميم والدراسات بطريقة علميّة عقلانيّة حتى نفهم الأحداث وإنعكاساتها المحتملة على الكنيسة وعلى إستقلال لبنان وحرّية أبنائه. وعقدنا خلوتنا الأولى في دير مار أنطونيوس-سير قرب رشميّا، خلال صيف 1969.
من خلال هذين اللقاءين، وما تلاهما من اجتماعات وحلقات دراسة وتفكير، تكوّن لدينا مفهوم أوّلي، ورؤية شبه واضحة. وتكوكبت مجموعة من المواهب والطاقات، وأخذت على نفسها متابعة الإجتماعات والتحاليل، والمثابرة على العمل التطوّعي الجدّي من أجل الخروج بأفكار ومبادئ بسيطة واضحة تخوّلنا حقّ التوجيه من جهة، والعمل في الشأن العام من جهة ثانية، صونًا "للإنسان وللوطن وللأرض وللحريّة". هذه القيم التي أصبحت موضوع اهتمام ما سوف يأخذ مع الزمن اسم "لجنة البحوث اللبنانيّة" التي أخذت لها مقرًا في الكسليك حيث كانت تتلاقى نخبة من المفكّرين والمتطوّعين الذين ناهز عددهم المئة.
تردّدتُ كثيرًا في إعطاء هذه المعطيات، وفي رسم هذه المناخات لصديقي الأستاذ أنطوان سعد ليكتبها ويحقق فيها مع المعايشين لهذه الأحداث بقالبه الخاص وأسلوبه الإخباريّ الشيق، وصفاء ذهنه الذي يسهّل قراءة أخبار أصبحت قديمة، لاقتناعي بأن أناس هذه الأيام المضطربة مأخوذون في شؤون حياتهم، قلقون على أوضاعهم الحياتيّة، يشغلهم عمّا حدث في أمسهم، ما هو كائنٌ في يومهم ومفاجئ لغدهم. والذين تقلقهم الهموم اليومية، كما الذين ينامون ملء عيونهم، لا يطيب لهم أن تلامس آذانهم أحاديث الساعات السود والنهارات المظلمة، وأصوات الذين طواهم الموت. وأكثر ما في هذه الذكريات، صورٌ تخيّم عليها غيوم الحروب والخلافات والبؤس والخوف والعنف، أما الرجال الذين ارتسمت أسماؤهم على صفحاته، فقد ذهب معظمهم إلى دنيا التاريخ والحق.
ولكن هذه المعلومات دينٌ عليّ للمجتمع وللتاريخ أولًا.
ولرفاقي وأصدقائي الأحياء والشهداء الذين بفضلهم صمدنا وبأثمان دمائهم الذكيّة سوف يستعيد لبنان تألّقه وإزدهاره ثانيًا.
1- دينٌ عليَّ للتاريخ، لأن كتابة الذكريات هذه ليست للتبجّح والفخار، فما أنا إلاّ مدوّن بسيط، بل لإلقاء الضوء على الأحداث خاصّة لأني عشتها شخصيًّا وكنت فيها فاعلًا أو مشاركًا، وفي هذه الحال، تصبح كتابتها مرحلة أساسيّة تندرج في ذاكرة المجتمع، وتسهم في خلق الوعي المجتمعي المشترك (La conscience collective). فمن واجب المؤرّخ الذي عاش الأحداث أن يشرك مجتمعه فيها شرط أن تبقى كتابته صادقة محقَّقة ومنسجمة مع شروط الموضوعيّة التاريخيّة.
ففي علم الأنتروبولوجيا، مثلًا، نهج حديث توافق أصحاب الإختصاص على تسميته "بالمراقبة المشاركة" observation participante"". وقد أظهرت هذه الطريقة جدواها وفعّاليتها في إبراز معطيات وحقائق قد تخطّت ما آلت إليه الطرق التي كانت تقتصر على الوصف والتنظير فحسب، وذلك دون ولوج الواقع. إن هذه "المراقبة المشاركة" تتلاءم تمامًا، بنظرنا، مع كتابة مذكرات تاريخيّة، لأنها تضيء على الأحداث وتصوب التاريخ وتخدم الحقيقة. وحتى أكون أمينًا استندت إلى مراجع موثوقة أهمها مذكراتي الشخصيّة وأوراقي الظرفيّة، كما إستندت خاصةً إلى دفاتر الأب توما مهنا أمين سرّ لجنة البحوث الذي دوّن الإجتماعات والمناقشات بأمانة ودقّة، وإلى الأب يوسف محفوظ، الأسقف فيما بعد، أمين السر العام للرهبنة آنذاك، الذي وضع سجلًا خاصًا للأحداث. كما استندت إلى دفاتر وأوراق الحركة الكسروانية، والمؤتمر الدائم للرهبانيات اللبنانية، وبعض ما كُتِب عن الأباتي شربل قسّيس، وإلى مقررات الجبهة اللبنانية ولجنة البحوث اللبنانية والمنشورات الظرفية التي كانت تصدرها من حين إلى آخر.
قد أكون وفّقت في فهم الأحداث ونقلها، وقد لا أكون، وقد يكون زميلي توفّق في مراجعتها وكتابتها والتدقيق فيها، وقد لا يكون، قد نكون، أنا وبنوع أخصّ صديقي الكاتب، قد استفدنا من تطوّر الأحداث، وأضفنا إليها تفسيرات جديدة لاحقة، أو ربطنا أحداثًا ببعضها بمنطق خاصٍّ لم يكن، ربما، هو منطقَ الأحداث آنذاك، أو جعلنا من عملنا المتواضع عملًا محوريًّا قطبيًّا يختصر عمل جماعة بكاملها. المهمّ أننا نتشارك نحن الاثنين في بعض المسؤولية وهذه سمة من سمات العمل المشترك ومستعدّون للدفاع عنها وإبراز المراجع والوثائق إذا لزم الأمر.
2- دينٌ عليَّ لرفاقي وأصدقائي الأحياء والشهداء الذين بفضلهم صمد لبنان في أصعب محنة وأخطرها والذين بأثمان دمائهم الذكية سوف يستعيد لبنان عافيته وتألقه وازدهاره. للأحياء منهم، بنوع خاص، حقٌ علينا بالمعرفة الكاملة لأدقّ تفاصيل تصرّفاتنا، التي لم تكن تتوفّر لهم خلال الأحداث، إماّ لضيقٍ لديّ في الوقت أو لأن الظروف لم تكن لتسمح لي بالشرح والتفسير. كما أنّ للّذين أساؤوا فهمنا أو فهم الأحداث حقٌ علينا أيضًا بالتوضيح والإفصاح لئلاّ يثبتوا على خطئهم ويعتبروا أو يظنّوا أننا سقطنا في تجربة الزعامة الصغيرة وبدّلنا قناعاتنا الرهبانيّة بغيرها من القناعات الزمنيّة...
لهم جميعًا شكري وامتناني وصلواتي. فالصلاة بقلب نقيّ ونيّة صافية هي التي قادت خُطانا كجماعة مؤمنة عبر مطاوي التاريخ، والصلاة هي التي سلّحتنا بالشجاعة والإقدام، وهي التي تقود خطى شبيبتنا وتفتح لهم الأبواب نحو مستقبل للبنان زاهر وريادي. لهذه الشبيبة نقدّم عملنا هذا لتتذكّر "أبدًا من أيّة صخرة نُحِتَتْ" ومن أيّة ينابيع نهلت واستقت وأسقت مجتمعها ومحيطها.
الأباتي بولس نعمان/الكسليك في 31/10/2006
الثلاثاء 9 شباط 2021