­

Notice: Undefined index: page in /home/lbnem/domains/monliban.org/public_html/monliban/ui/topNavigation.php on line 2

الإعضال البنيويّ اللبنانيّ والاعتراض الفكريّ على الفِدِراليّة الثقافيّة والوصاية الأمميّة (الجزء الأوّل)

مشير باسيل عون

يصرف اللبنانيّون جهدهم سدًى في البحث عن حلولٍ موضعيّة للتأزّم السياسيّ البنيويّ العميق. بعضهم يستعجل تأليف الحكومة، وبعضهم الآخر يُصرّ على الانتخابات النيابيّة المبكِرة. وقلّةٌ تجرؤ فتنادي باستقالة رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة. والحال أنّ جميع هذه السبُل لا تُفضي إلى الانفراج المنشود، إذ إنّ الإعضال اللبنانيّ بلغ مبلغًا قصيًّا أضحت عنده جميع التسويات أشبهَ بترقيعات نافلة. في اعتقادي أنّ اللبنانيّين لا يريدون الاعتراف بنهاية طورٍ من أطوار الاستقلال، واستهلال طورٍ آخر لم تتّضح معالمُه حتّى الآن. بين الطورَين تنبسط حالٌ مقلقة من التشنّج والتشكيك والاسترهاب. فما السبيل إلى إنقاذ الوطن اللبنانيّ من الهلاك؟

1. خطيئة المسيحيّين

ما قضى على لبنان، والحقُّ يقال، إلّا اللبنانيّون أنفسُهم حين بايعوا قضايا العالم كلَّها، وأهملوا قضيّتهم الوطنيّة المحض. في الخطيئة الشنيعة هذه يتساوى جميع اللبنانيّين من جميع الطوائف. غير أنّ الأمانة الموضوعيّة تستوجب منّا الإقرار بأنّ اللبنانيّين المسيحيّين كانوا، على شغفهم المرَضيّ بالسلطة، أقلَّ الناس استجلابًا للإيديولوجيات الاستبداديّة التي حصرت جلَّ نشاطها في تعطيل الهويّة اللبنانيّة.

الحقيقة أنّ المسيحيّين لم يأتوا بإيديولوجيات متضخّمة عبثيّة في لبنان. خطيئتهم الوحيدة أنّهم أنشؤوا، بمعاونة الفرنسيّين، وطنًا تعدّديًّا هو في مثاليّته الطاهرة نموذج الأوطان العربيّة قاطبةً. فكان لهم فيه حصّةٌ وازنةٌ استثارت مظلوميّة الطوائف الأخرى. فجرى التعديل والإنصاف. غير أنّ الأحوال لم تستقم. فما تكون خطيئة المسيحيّين في إنشاء لبنان وإدارته في العصر الذهبيّ؟ وماذا فعل اللبنانيّون المسيحيّون بالكيان التعدّديّ الناشئ هذا؟ أفلم يستزرعوا فيه الانفتاحَ والفكرَ والحرّيّة؟ أفلم يحيّدوه ويحافظوا على ائتلاف الشمل العربيّ المتفتّت بتصارع أنظمته الاستبداديّة؟ ما خطيئتهم في محاولة تجنيب لبنان هزّاتِ المنطقة وفظائعَ الاقتتال الإقصائيّ التي ابتُلي بها العالم العربيّ؟

لم ينجحوا في ذلك كلَّ النجاح، إذ إنّ معاثر الوقائع الجيوسياسيّة في الشرق العربيّ تجاوزت قدراتهم الاستيعابيّة. ولم ينجحوا أيضًا من جرّاء إصرار الشركاء المسلمين على المظلوميّة المفترضة في تقاسم مسؤوليّات الحكم، في حين أنّ العقل السياسيّ المسيحيّ ما كان يقطع أمرًا خطيرًا من دون استشارة الشريك المسلم. وحين أصابوا بعضًا من النجاح، كان نجاحهم أيضًا بفضل الشريك المسلم الذي كان يدرك أهمّيّة الاختبار اللبنانيّ، ويصون فرادتَه، ويضمن ديمومته. أمّا اليوم، فلنعاينْ ما حلَّ بلبنان؟ أفيُعجبنا الوضعُ المفسودُ، المهترئُ، المتخلّفُ، المنحلُّ هذا؟ لست أروم أن أنكأ الجراح القديمة. ولكنّي أحزن للتقصير الفاضح الذي مَهر مسلك اللبنانيّين بعد الحرب (1975-1990)، إذ لم يتوبوا توبةً صادقةً، ولم يضطلعوا اضطلاعًا واعيًا بمسؤوليّة أخطائهم، ولم يتصالحوا في جوهر الأمور.

أعود فأكرّر السؤال: بماذا أخطأ المسيحيّون في لبنان؟ إذا ظنَّ بعضهم أن خطيئة المسيحييّن هي في صوغ الفكرة اللبنانيّة، فالمأساة عظيمةٌ علينا جميعًا. ذلك بأنّ الفكرة اللبنانيّة هذه، حين تصبح في وعي الشركاء تصوّرًا إيديولوجيًّا، تسقط الهويّةُ اللبنانيّة، وتنحلّ أسبابُ الوجود اللبنانيّ، وتتعطّل المعيّةُ اللبنانيّة، ويذهب كلُّ واحد في سبيله. من حقائق المنطق السليم أنّ نكران الذات المطلق موتٌ للكائنات وللكينونة. لا يمكنني أن أتشارك في معيّةٍ سليمة مع القائلين بخطيئة الوطن اللبنانيّ وعبثيّة الهويّة اللبنانيّة. أستدرك فأقول بأنّي مستعدٌّ لمحاورة الجميع. غير أنّ التشارك في المعيّة الواحدة داخل الوطن اللبنانيّ الواحد يستلزم الإقرار بصدارة القضيّة اللبنانيّة المطلقة. لكلّ امرئ الحقّ في قبول الفكرة اللبنانيّة أو في رفضها. من يرفضها اليوم كثُر. لذلك أوشك البنيان اللبنانيّ على الانهيار.

2. جوهر الفكرة اللبنانيّة

في اعتقادي أنّ الوعي اللبنانيّ الجماعيّ ما فتئ حتّى الآن مصابًا بأمراض الولاءات الخارجيّة. لذلك لم يستطع لبنان أن يصمد أكثر من مئة سنة على المحَن الجليلة التي انتابته منذ نشأته. أمّا الحكمة الوطنيّة، فتقضي بأن ينتظم الولاءُ الوطنيُّ الأوّل للبنيان اللبنانيّ في ذاته، قبل مناصرة القضايا العربيّة والإقليميّة والعالميّة، على سموّ مضامينها ورفعة مطالبها. فكيف تستقيم معيّةٌ لبنانيّةٌ إذا كان أعضاؤها يتمايلون يمنةً ويسرةً كلّما هبَّت ريحٌ إيديولوجيّةٌ تحمل في غبارها وعودَ الغلبة الطائفيّة؟!

قد يسارع بعضُهم إلى الاعتراف بالوطن اللبنانيّ حقيقةً كيانيّةً نهائيّة. بيد أنّ الاعتراف الخطابيّ هو غيرُ التوافق الواعي على مضامين الفكرة اللبنانيّة. من مآسي الواقع السياسيّ اللبنانيّ التلفّظُ بالكلمات عينها وافتراض المعاني المتباينة من ورائها. من أبرز الأمثلة على الاختلاف الجوهريّ هذا التنازعُ في إدراك مفاهيم الهويّة، وشرعة حقوق الإنسان، والحرّيّة والمساواة والدِّموقراطيا، والتنوّع والعَلمانيّة والحياد والمجال العموميّ، حتّى بلغ الاختلاف إدراكَ اللبنانيّين الانتخاباتِ في مسراها الإجرائيّ، كما سأبيّن ذلك. حين يبلغ التباينُ حدَّه الأقصى هذا، تصبح المعيّةُ فعلًا جهاديًّا يزهق النفس أيّما إزهاق. وليس على الناس أن يهلكوا في كلّ صباح من أجل وفاق لبنانيّ يستحيل إنجازُه باستحالة التوافق على المضامين الأساسيّة التي تنطوي عليها مفاهيمُ المعيّة الإنسانيّة في الوطن اللبنانيّ المعلَّق.

من يرغب في الانتصار لصدارة القضيّة اللبنانيّة، يجب عليه أن يدرك كيف يتصوّرها اللبنانيّون المسيحيّون، أو لنقلْ جلُّهم، وأنا منهم. في عرفي أنّ القضيّة اللبنانيّة الأسمى هي أوّلًا في صون الحرّيّة الكيانيّة الذاتيّة والجماعيّة. وهي ثانيًا في تدبّر التعدّديّة الثقافيّة التاريخيّة. وهي ثالثًا في مناصرة الفكر الإنسانيّ العَلمانيّ الاستناريّ النابت في كلّ وطنٍ من أوطان العالم العربيّ. ما من قضيّةٍ تعلو هذه القضيّة المثلّثة الأبعاد. وكلُّ تنظير إيديولوجيّ يحاول أن يُخضع الوعي اللبنانيّ لأولويّات إيديولوجيّة أخرى إنّما يعطّل الذات اللبنانيّة تعطيلًا جسيمًا. وهذا ما حصل على تراخي عقود المئويّة الأولى، وقد تحوّلت صراعًا مريرًا بين القضيّة اللبنانيّة والقضايا الأخرى. حين نتّفق على هذه المضامين، يمكننا التفكير في ترميم المعيّة اللبنانيّة. من غير ذلك، لا بدّ من تدبّر الاختلاف تدبّرًا سلميًّا حبّيًّا. ما من ضرورةٍ للتكفير والاقتتال في شأنٍ قد يريح اللبنانيّين جميعهم إنْ هم شاؤوا الاجتهاد الخلّاق فيه.

3. الزمنيّات الثقافيّة المتفاوتة

أعود إلى الوضعيّة المتأزّمة الراهنة. لقد ثبت للجميع أنّ النظام السياسيّ الذي يرعى المعيّة اللبنانيّة أضحى ساقطًا من جرّاء اختلال الميزان البنيويّ في التعدّديّة اللبنانيّة. بتعبير أوضح، خرج المسلمون من الحرب اللبنانيّة، وفي يقينهم أنّهم الغالبون، في حين أنّ المسيحيّين انكفؤوا إلى جبالهم وقلاعهم يختبرون مرارة الإقصاء في العصور الوسطى العربيّة. أمّا الحالمون بالعَلمانيّة وبالإنسيّة الثقافيّة العَلمانيّة وبالدولة الحديثة، فإمّا تاهوا في الأرض الواسعة، وإمّا اقتنعوا بحتميّة الزمنيّة الثقافيّة العربيّة المعطّلة.

لا بدّ في هذا السياق من الحديث عن منطق التفاوت في الزمنيّة الثقافيّة. فالواضح أنّ تعدّد الولاءات اللبنانيّة وإجهاز الإيديولوجيات العربيّة على القضيّة اللبنانيّة يعبّران عن خللٍ ثقافيٍّ أعمق جذورًا في وعي الجماعات اللبنانيّة. يؤسفني القول بأنّ اللبنانيّين فقدوا اليوم الخلفيّات الثقافيّة المشتركة الناظمة. فأمسَوا يختبرون في بيئاتهم الخاصّة أنماطًا من التعبير عن وجدانهم الجماعيّ تخالف نظام الالتئام في محضن الدولة العَلمانيّة الواحدة، وفي منفسحات المجال العموميّ المحايد. لذلك لا أعاين اليوم بين اللبنانيّين من الرباطات الوثيقة غير الحنين الوجدانيّ السطحيّ، والملاطفات الاجتماعيّة الفارغة، والمسايرات الانتفاعيّة الرخيصة. ولستُ أسمع صوتًا جريئًا يجاهر بضرورة التفكّر الرصين في إعادة بناء الكيان اللبنانيّ على أسُسٍ تراعي تطوّر الأحوال الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والدِّموغرافيّة. كلُّ حديث عن نظام جديد تعصف به أمواجُ التشكيك والتكفير والتخوين حتّى لقد أضحى اللبنانيّون يسترهب بعضُهم بعضًا لشدّة ما استقرّ في وعيهم الباطنيّ من مكتومات سلبيّة.

4. مسوِّغات الانتداب الأمميّ المحايد

ومن ثمّ، فإنّ الحكمة تقتضي أن يعترف اللبنانيّون علنًا بتعطّل معيّتهم في مستهلّ المئويّة الثانية، وأن يُعرضوا عن أنصاف الحلول المنشودة في الحكومات المتعثّرة والانتخابات الهزليّة. أودّ هنا أن أذكّر الجميع بأنّ الدِّموقراطيا الحقّ لا تتحقّق في الانتخابات وحسب. ذلك بأنّ الانتخاب عمليةٌ إجرائيّةٌ محض. المطلوب استزراعُ الروح الدِّموقراطيّة في الوعي اللبنانيّ الذي ما فتئ حتّى اليوم يعاني التفاوت الخطير في الزمنيّات الثقافيّة المتباعدة. كيف لمجتمع طائفيّ، متشنّج، تستهويه طواعيةُ الاستعباد لزعمائه الذين يسحرهم سلطانُ الغرباء يستنجدونه استعلاءً على شركائهم في الوطن، كيف لهذا المجتمع أن ينتخب انتخابًا حرًّا، واعيًا، مسؤولًا، بنّاء؟

لا أمل من الانتخابات في الزمن التأزّميّ الراهن. إنّي من الذين يعتقدون اعتقادًا راسخًا أنّ اللبنانيّين لا يستطيعون أن يتدبّروا خلافاتهم الجسيمة من دون مؤازرة السند الحقوقيّ الدِّموقراطيّ الأمميّ العادل المنصف، ومن دون احتضان القوى الأُروبّيّة المستنيرة المحايدة. بما أنّ الاختلاف اللبنانيّ أضحى مستحيلَ الانضباط في حدود الدولة العَلمانيّة المحايدة المنشودة، يجب على الأمم المتّحدة أن تنتدب على لبنان مجموعةً من الدول التي ليس لها أطماعٌ إيديولوجيّة حتّى تنشر فيه الحقَّ والقانونَ والوعيَ والانتماءَ والسويّةَ الإنسانيّة. أجل، أصبح باللبنانيّين حاجةٌ إلى جميع عناصر الأنسنة هذه، من بعد أن استفحل فيهم الفسادُ والعنفُ والتخلّعُ الأخلاقيّ.

5. المتّحدات الثقافيّة اللبنانيّة المتجاورة المتسالمة

من أخطر مسؤوليّات الرعاية الأمميّة أن تستفتي اللبنانيّين في مسألة معيّتهم العالقة في مضايق الزمنيّات الثقافيّة المتفاوتة. كنتُ قد أعلنتُ صراحةً أنّي أؤيّد الفِدراليّة الثقافيّة التي تتيح لكلّ جماعة من الجماعات اللبنانيّة أن تحيا وفاقًا لمقتضيات تصوّراتها ومبادئها واختباراتها. وكنتُ أدرك أنّ اقتراحي سوف يناهضه فريقان: الأوّل، إسلاميُّ الهوى، يُعلي منطق الغلبة الطائفيّة المذهبيّة، ويروم أن يهيمن على القرار اللبنانيّ بأسره؛ والثاني عَلمانيّ الوجهة، يحلم باجتماع لبنانيّ عصريّ منعتقٍ من قيود الطوائف والمذاهب. في الاعتراضَين تتجلّى مقاديرُ الاختلاف السحيق الذي يضرب بالبنيان اللبنانيّ. من يعارض الفِدراليّة الثقافيّة من العَلمانيّين الصادقين يظنّ أنّ الزمن الثقافيّ العربيّ قادرٌ على إنجاب علَمانيّة حضاريّة سليمة، وقادرٌ على استيلاد دولة حديثة راسخة، وقادرٌ على بناء وعي وطنيّ يتجاوز به تشنّجات الولاءات الطائفيّة الضيّقة. صدّقوني! هي أحلامٌ بريئةٌ تراود كلَّ الطامحين إلى بناء الإنسان الخليق بإنسانيّته الحرّة في مجتمعات العالم العربيّ. لسنا في الزمنيّة الثقافيّة هذه، ولا على أعتابها، ولا على مسافة مئة عام منها. أمّا لبنان، فلا يجوز أن يُترك على حاله حتّى تنضج الإنسانيّةُ الرفيعةُ في العالم العربيّ. لقد أوشك على الاحتضار، ولم يبقَ أمامه سوى بضعٍ من السنوات قبل أن يلقى حتفه.

فلنبادر إذًا إلى تدبّرٍ حضاريٍّ خلّاق من أجل إنقاذ المعيّة اللبنانيّة. وقد يكون الإنقاذ في فكّ الاشتباك السيّئ بين اللبنانيّين من أجل إعادة التواصل السليم بينهم. لست أنادي بانفصالات حادّة، بل بمناطق ثقافيّة حرّة تتجاور تجاورًا واعيًا مسؤولًا، ويلتئم فيها كلُّ لبنانيٍّ يستهويه الوجدانُ الإنسانيّ العميق المتحقّق، أو المزاجُ الثقافيّ العامّ السائد، أو الحسُّ الاختباريّ الفريد المعتمد، أو النظامُ الاجتماعيّ العامّ الذي ينحت نحتًا خاصًّا هويّةَ المجال العموميّ. لن أدخل في الأحكام القانونيّة التفصيليّة التي ترعى ارتباط المتّحداث الثقافيّة اللبنانيّة بعضها ببعض. فلأصحاب الاختصاص القانونيّ كلمتُهم الهادية في هذه المسائل. يعنيني أن أشير إلى أنّ اللبنانيّين يمكنهم جميعًا أن يحيوا في البيئة التي تستهويهم من غير إكراه أو معانفة. من محاسن الفِدراليّة الثقافيّة، أو سمِّها ما شئتَ، أن تضمن الانتقال الحرّ الذي يفترض الخضوع الطوعيّ لأحكام الحياة السائدة في البيئة المستقبِلة، وذلك بخلاف ما يجري اليوم من اعتراض على تغيّر الأحوال في المجال العموميّ في كلّ بيئة. كلُّ لبنانيّ لا يرضى ببيئته الراهنة له الحقّ أن يرتحل إلى مناطق تضمن لهم حرّيّة التعبير عن أعمق اقتناعاته الوجدانيّة. وفي ذلك فسحةٌ خلاصيّةٌ من أجل إنشاء عَلمانيّة لبنانيّة عفويّة يتّفق عليها جميعُ المنبوذين في بيئاتهم، الراغبين في اختبارٍ آخر للمعيّة اللبنانيّة.

6. قرائن نجاح النظام الطائفيّ اللبنانيّ القديم

بيد أنّ اللبنانيّين لن يستطيعوا بالحوار الهادئ أن يبلغوا المستوى الرفيع هذا من تدبّر التنوّع اللصيق ببنيانهم. لذلك ينبغي لهم أن يستنجدوا حكمةَ الأمم الراقية. أمّا الطعن بمثاليّة الطرح الفِدراليّ، ومثاليّة الرقيّ الأمميّ، ومثاليّة التجاور السلميّ بين البيئات اللبنانيّة، فلا يستقيم على أيّ وجه من الوجوه. ذلك بأنّ سقوط هذه المثاليّات يستتبع سقوط كلِّ مثاليّة يفترضها اللبنانيّون في معيّتهم المختلّة، وفي محيطهم العربيّ، وفي مناصرة قضايا الأمّة المتخيَّلة. وهنا أسأل كيف تكون المثاليّة مقتصرةً على النظام الطائفيّ اللبنانيّ ومحجوبةً عن النظام الفِدراليّ الثقافيّ؟ قد يعثر المشكِّكون على ألف علّة وعلّة لكي يعطّلوا الطرح الفِدراليّ الثقافيّ. غير أنّ التعطيل لا يعني أنّ الواقع اللبنانيّ الراهن سينقذ اللبنانيّين من الهلاك.

أعود إلى حكمة الأمم الراقية وإلى مقولة الحياد الإيجابيّ وإلى الوصاية الدوليّة. هي شروطٌ أساسيّة من أجل إنقاذ البنيان اللبنانيّ المنهار. كلُّ سبيلٍ إصلاحيّ آخر لن يجدي نفعًا ما دام اللبنانيّون لم يبلغوا مستوى النضج الدِّموقراطيّ الذي يؤهّلهم لكي يحكموا أنفسهم بأنفسهم. ولستُ أظنّ أنّ المجتمعات العربيّة الأخرى هي على أفضل حال. غير أنّ الاختلاف واضحٌ بين مجتمعٍ لبنانيّ تعدّديّ تنعقد فيه الحدودُ الدنيا من الدِّموقراطيا بفضل التنوّع الطائفيّ، ومجتمع عربيّ يتسلّط عليه، سواءٌ بالاستبداد المطلق أو بالاستبداد المستنير، رهطٌ من الحكّام يتوارثون خيراته ويقبضون على مصائره.

ومن ثمّ، فإنّ المعاندة في إحياء العظام اللبنانيّة تجعل الناس يكفرون بما بقي عندهم من فتات الوعي الوطنيّ. هنا أخاطب الحريصين على النظام الطائفيّ، فأنبّههم إلى أنّ نجاح هذا النظام اقترن بوضعيّة إقليميّة ودوليّة جيوسياسيّة باتت اليوم مفقودة. واقترن أيضًا بحال ثقافيّة لبنانيّة كانت سائدة في مطالع القرن العشرين وفي منتصفه، وأضحت اليوم غائبة. واقترن أيضًا بواقع دِموغرافيّ متوازن كان يعضد المعيّة السليمة، وأمسى اليوم مختلّا. واقترن أيضًا بانتظام الحكم السياسيّ وانعقاده على رأس واحد كان يحكم حكمَ الشورى الرضيّ، لا حكمَ الاستبداد الإهلاكيّ. فالحُكم المسيحيّ كان، في أغلب الأحيان، بمنزلة الحَكَم المتوسّط، لا بمنزلة الحاكم القاهر. أمّا النظام العَلمانيّ الذي يدعوه بعضُهم زورًا النظام المدنيّ، فإنّ البنية الذهنيّة الثقافيّة اللبنانيّة ليست مهيَّأة اليوم لاستدخاله في مرافق الاجتماع والإدارة والحكم في جميع البيئات الطائفيّة بالنسَب عينها والمقادير نفسها. وعليه، فإنّ الحلّ الذي أقترحه في تنويع المتّحدات الثقافيّة اللامركزيّ داخل الهيكل اللبنانيّ الواحد، وهو ما يُدعى بالفِدراليّة الثقافيّة، هو الأنسبُ من أجل إعتاق اللبنانيّين من مهالك الاقتتال والإفناء. بيد أنّ المعترضين كثُر. وهذا أمرٌ طبيعيّ. لذلك سوف أختم بمناقشة وجيزة لآراء المعترضين، علّني أوضح المقاصد القصيّة التي ينطوي عليها اقتراحي.

(للمقال صلة)

مشير باسيل عون

السبت 9 كانون الثاني 2020