­

Notice: Undefined index: page in /home/lbnem/domains/monliban.org/public_html/monliban/ui/topNavigation.php on line 2

من يكتب التاريخ ينتصر

الدكتور زيد الفضيل

حال قراءتي خبر تفاعل الرئاسة الجزائرية بانتداب المؤرّخ عبدالمجيد شيخي للعمل مع الجانب الفرنسي، جراء إعلان الرئيس ماكرون تكليف المؤرّخ بنجامان ستورا بمهمّةٍ تتعلّق بذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر، بهدف تعزيز المصالحة بين الشعبين الفرنسي والجزائري في يوليو الفائت؛ تأكّدتُ من أهمّية التاريخ في صناعة عالمنا المعاصر، وأيقنتُ أن من يكتب التاريخ، وقبل ذلك يقرؤه بوعيٍ وتفهّم، سيحفر اسمه في لوحة الزمن، ويصنع منتجه الذي يريد مستقبلًا.

حتمًا هو كذلك، وإلّا فما الذي يدعو الرئيس ماكرون لخوض غمار مشروع بحثي تاريخي معمّق؟ ومن يتأمّل قوله المنشور فسيدرك المعنى والمراد، حيث كتب في رسالته لتكليف ستورا قائلًا «من المهمّ أن يُعرف تاريخ حرب الجزائر ويُنظر إليه بشكلٍ واضح. الأمر يتعلّق براحة وصفاء الذين أضرّت بهم، وبمنح شبابنا إمكانية الخروج من النزاعات المتعلّقة بالذاكرة».

إذًا هي الذاكرة التي يُراد محو أو استبدال محتواها بمعلومات جديدة تتوافق مع إرادة العصر، وهو التاريخ الذي يشكّل عنوانًا رئيسًا في خريطة المعرفة لدى الدول المتقدّمة إجمالًا، في الوقت الذي ألفنا أن ننظر إليه بازدراء، حتى بات هامشًا في ثقافتنا، تقليديًا في ذهننا، موبوءًا بروايات ضعيفة، ومسكونًا بهيبة السلطة وتأثيرها عبر مختلف الأزمان والأماكن، ولاسيّما في قرون التأسيس لتاريخنا الإسلامي، الذي مثّل ساحةً لمعركةٍ حامية بين قراءتين مختلفتين إن لم يكن أكثر، وللأسف فلا يزال تأثيرها مستمرًّا حتى الوقت الراهن. وفي تصوّري ذلك هو عصب الإشكال في واقعنا المعاصر الحامل على كاهله وزر ما سبق، مما أعاق تحرّره ذهنيا من قيد تلك المرحلة.

إن إيماني كبير بأن من يكتب التاريخ بشكلٍ دقيق، وبمنهجٍ تفكيكي مستند إلى قواعد التحليل الموضوعي، بعيدًا عن العاطفة والانتماءات الأيدلوجية، سيخطّ بثباتٍ وثيقة انتصاره حضاريًا، ولاسيّما أن هُويّة الصراع ومضمونه في إقليم الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسّط منصبّة على من يملك القدرة على كتابة التاريخ.

الصراع إذًا متركز حول المحتوى الذي لم يعد لباحثينا -فضلًا عن غيرهم- إلمام به بشكل دقيق للأسف، في الوقت الذي بلغ فيه اهتمام الكيان الصهيوني بدراسة التاريخ وتوثيقه وتحليله ونسج خيوطه وفق مصلحته حدًّا كبيرًا من الاهتمام، فما أكثر حاويات الفكر ومراكز الرأي Think Tanks التي تمدّ أصحاب القرار السياسي ووسائل الإعلام بتحليلات ودراسات تتعلّق بكلّ القضايا المهمّة، ومن تلك المراكز وفق دراسة نشرتها مجلّة «آراء حول الخليج» ما يلي: «معهد بن تسفي للدراسات اليهودية» الذي تأسّس عام 1948م، ويهدف إلى صبغ الهويّة اليهودية على فلسطين عبر تنظيم المؤتمرات والندوات، ومن خلال تسويق المفاهيم والتصوّرات الدعائية اليهودية حول فلسطين، و«معهد موشي ديان للدراسات الإفريقية ودراسات الشرق الأوسط»، الذي تأسّس عام 1959م ويتبع كلّية الدراسات التاريخية بجامعة تل أبيب، و«معهد هاري ترومان» الذي تأسّس عام 1965م، في الجامعة العبرية في القدس، بدعمٍ من الرئيس الأمريكي هاري ترومان، ويُركّز على دول الشرق الأوسط، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كما يهتمّ باحثوه بدراسة آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تاريخيًا وثقافيًا ونفسيًا وسياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، و«مركز القدس للشؤون العامة» الذي أنشئ عام 1976م وبات واحدًا من أبرز المراكز البحثية الصهيونية رسمًا لقرارات قادة الاحتلال، علاوة على «أكاديمية العلوم التاريخية في جامعة تل أبيب»، التي اهتمّت بدراسة المعارك الإسلامية وفقه الجهاد، وكذلك «معهد الدراسات الشرقية بالقدس»، الذي جمع سجلًّا ضخمًا للشعر العربي القديم، وأَنشأ معجمًا عربيًا عبريًا، ورصد اللهجات الفلسطينية العامية، وعمل على ترجمة القرآن إلى العبرية، وكتابة سيرة النبي محمد، كما اهتمّ بكثيرٍ من العلماء المسلمين كأبي حامد الغزالي وغيره، وقدّم عديدًا من الرسائل في موضوعات متنوّعة مثل: شخص مقام إبراهيم، والإعجاز في القرآن، وفريضة الحج، وأركان الإسلام، وغيرها، للتأكيد على مرجعية النص الديني اليهودي للإسلام، وأن التوراة هي العهد المؤسّس للقرآن كما هو الحال مع الإنجيل، وذلك والله لهو الافتراء والكذب المبين الذي يعمل اليهود اليوم على تأسيسه في ذهن أجيالنا المعاصرة في غفلة وعجز منا. فهل من منقذ؟

أخيرًا، وفي غمرة كلّ هذا الألم، يبرز قبس من نور يُحيي شيئًا في النفس، حيث أعلن مؤخرًا عن إصدار المجلّدات الأولى من «المعجم التاريخي للغة العربية»، برعاية حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، وهو مشروع يؤرّخ لمفردات لغة الضاد وتحوّلات استخدامها عبر 17 قرنًا، ابتداءً بعصر ما قبل الإسلام، الأمر الذي سيسهم في حفظ الذاكرة العربية، وفق قول الدكتور القاسمي في كلمته الافتتاحية، فشكرًا لسمو الشيخ وللقائمين على المعجم.

الدكتور زيد الفضيل/صحيفة مكّة

الأحد 8 تشرين الثاني 2020