­

Notice: Undefined index: page in /home/lbnem/domains/monliban.org/public_html/monliban/ui/topNavigation.php on line 2

لا يمرّ الزمن -الحلقة الثانية عشرة

بيار حبيب

12- رحلةٌ من العمر

اِنتهت السّنة الجامعية الثالثة، وحانت عطلة الصيف. وكانت عائلة عماد قد أنهت تأهيل البيت القروي وانتقلوا للإقامة فيه بشكلٍ دائمٍ بعد أن أنهى والده خدمته في الأمن الداخلي. وأصرّ عماد على ميرا أن تزوره في قريته، ويعرّفها هناك على عائلته بعد أن حدّثهم عنها طويلًا. وكانت ميرا لا تقلّ رغبةً للقيام بهذه الزيارة، وهي التي تعشق الطبيعة الريفية، فكيف إذا كان فيها حبيبها الغالي. واتّفقوا على الموعد، على أن ترافق ميرا صديقتها مهى، ويرافق عماد صديقه زياد.

وصلوا القرية البقاعية برفقة عماد، وسارت السيّارة بمحاذاة حائط طويل، يعلوه سياج من معدن شائك. ثمّ اجتازت بوابة عريضة وولجت ساحة رحبة، تحيطها قطعة أرض مخضوضرة، وفي الصدر انتصب بناء واسع من طابقين، جدرانه سميكة من حجارة صلدة، وتُشرف منه شرفات مقنطرة.

ذُهل الرفاق من ضخامة المنزل ورونقه، واتّساع الحدائق المحيطة به. ولم تستطع ميرا أن تكبت دهشتها فقالت:

- ما هذا يا عماد، هل هو منزلكم؟

فأجاب بإيماءة من رأسه وقال:

- أجل، هو منزل العائلة الريفيّ.

فأردفت: كنتُ أتخيّل منزلًا متواضعًا، تحيط به جنينة صغيرة، كحال منزلنا القروي. فوجدنا منزلًا أشبه بالقصر المنيف، وحديقة أوسع من أيّ حديقة عامّة في عاصمتنا. فاجأتنا يا عماد، يا للروعة!

وكان والداه وأختاه قد خرجوا لاستقبالهم، وقد فتحوا أذرعتهم على ملئها إشارة إلى فرحتهم الكبيرة بزيارتهم، وأطلقوا عبارات الترحيب والتأهيل المتلاحقة. قبّلتهم الأمّ بحرارة، وكان لميرا غمرةٌ مميّزة. كما عمدت الشقيقتان إلى تقبيل ميرا ومهى مطوّلًا.

كذلك كان للوالد سلامٌ حارٌّ لهم، وعندما صافح ميرا، غمر يدها بكلتا كفيّه، وشدّ عليها بحنوٍّ ظاهر وتمتم:

- هذه أنتِ إذًا يا ميرا. اشتقنا للتعرّف إليك. كنتُ أعرفُ أنّ ذوقَ ابني لا يخيبُ.

فاصطبغت وجنتاها احمرارًا وهي تجيب:

- أشكرك يا عمّاه، هذا من لطفك.

وأخرجتها الشقيقتان من عثرة خجلها، إذ أحاطتاها بابتساماتٍ بهيجة وهما تعرّفان عن اسميهما: سهى، ودلال.

دخلوا بهوَ الدار يستريحون من عناء السّفر الطويل، يحتسون الشاي، ويتذوّقون الحلوى الشهيّة.

- تفضّلوا، هذه حلوى من صنع يديّ.

ورفعت الطبق ودارت به عليهم وهي تزهو فرحًا. وأحسّت ميرا أنّ عيون أهل الدار مسمّرة عليها، فلا تكاد تزيغُ عينٌ عنها، حتّى تعودَ إليها. وهي عيونٌ تضجُّ ابتسامات وفرحًا. والكلام بغالبيته موجّه لها، وهو كلامٌ لطيفٌ ودودٌ. أشعرها ذلك بالإرباك، فرجف فنجان الشاي في يدها، وأصدر صوتَ طقطقة وهو يحتك بصحنه الصغير. وسقط منها فتاتٌ وهي تتناول الحلوى. عجبت من ذاتها! كانت تظنّ أنّها تستطيع أن تتمالك نفسها في مثل هذه المواقف. فحزمت أمرها، ثمّ بدأت تلاقي ابتساماتهم بمثلها، وتشارك في الحديث، وتجيب على استفساراتهم بلباقتها المعهودة ودون وجلٍ.

- بعد ساعة واحدة يجهز طعام الغداء.

أعلنت الأمّ ذلك، بينما كان الوالد قد استأذنهم لاستقبال زوّارٍ.

فقال عماد:

- ما رأيكم أن نقوم بجولةٍ في حديقة المنزل في هذا الوقت؟

غير أنّ ميرا عارضت هذه الفكرة وقالت:

- نزور الحديقة بعد تناول الغداء. أمّا الآن فنساعدك يا أمّ عماد في تحضير المائدة. ما رأيكم؟

هذا الاقتراح منها بعث السرور العارم في صدر الوالدة. فقد أدركت أنّ ولدها قد اختار أفضل "كنّة" لها. فبهذه المبادرة البسيطة، قد حجزت لها مكانًا عزيزًا في قلب عائلتها. وما يُقال صحيحٌ، مِن أنّ الكتاب يُقرأُ من عنوانه.

وانخرط الجميع في العمل يتنقّلون بين المطبخ وغرفة الطعام.

بعد الغداء، خرجوا للتنزّه في الحديقة. وصادفوا في الباحة الخارجية عددًا من الزائرين، الذين رحّب بهم سيّد الدّار داعيًا إيّاهم الدخول إلى المنزل. فعلّق زياد وقال:

- ما هذا يا صديقي، الزائرون لا ينقطعون عنكم. فكأنّكم بيت وجاهة.

ضحك الجميع لهذا الكلام. فقال عماد:

- ونحن كذلك.

فأخذوا كلامه على محمل المزاح. وقال زياد:

- نعم أنتم وجهاء. فهل الوجهاء أفضل منكم.

ولم يشأ عماد أن يعلّق على الموضوع أكثر من ذلك. فقال:

- هيّا، هيّا أريكم حديقتنا الغنّاء.

وكانت في الحقيقة حديقة غنّاء! توزّعت في أرجائها الفسيحة أشجارٌ عديدة مثمرة من أنواع مختلفة، المشمش والتين، والجوز واللوز، والتوت الأحمر والأبيض، وعرائش العنب، والخوخ والتفاح. ممّا دفع مهى إلى القول:

- ما شاء الله، ما شاء الله. كلُّ ما تشتهي من أشجار الفاكهة. لو كنتُ مكانك يا عماد، لتركت المدينة وجامعاتها، وما غادرت هذا المكان.

فدفعتها ميرا محتجّة وقالت لها:

- ما الذي تقولينه أيّتها الفتاة؟

فقهقهوا عاليًا. غير أنّ عماد بادر إلى القول:

- سهولنا خصبة معطاءة، ونحن نملك أرضًا زراعية خارج أسوار هذا المنزل. غير أنّ الزراعة مردودها ضعيف، وانتاجها متقلّب، وتعاني من منافسة أجنبيّة.

فقاطعه زياد ممازحًا:

- وهذا درسٌ في الجغرافيا، "رزق الله على أيامك أستاذ بيار".

وتابع عماد:

- كان جدّي، يملك سهولًا واسعة، لكنّها تقسّمت بالإرث بين أولاده السبعة. ثلاث بنات كانت حصّة كلّ واحدة نصف حصّة الشبان. وهكذا تتفتّت الملكيات الكبيرة إلى ملكيات صغيرة. فلا تعود قادرة على إعالة العائلة. وقد جرت العادة أن يتّجه الشبّان إلى الوظيفة ليؤمّنوا لهم موردًا ثابتًا وضمانات، وفي الوقت عينه يتابعون الاهتمام بأراضيهم أو يؤجّرونها إلى عائلات أخرى. وعندما يصل الرجل إلى سنّ التقاعد، ويترك وظيفته، يعود للعمل في رزقه. فليس غريبًا أن أُقيم هنا في مستقبل أيامي.

فنظرت مهى إلى صديقتها وقالت:

- عليكِ إذًا يا صديقتي أن تعايني المنزل منذ اليوم وتختاري غرفة نومك.

فحاولت ميرا الإمساك بها وهي تقول:

- أيّتها الشقيّة، سأريك ما أفعل بكِ.

فركضت مهى مفلتةً من بين يديها، فتبعتها ميرا، وآنستا الهرولة بحرّية في الهواء الطلق، وراحتا تدوران حول الأشجار، تمسكان ببعضهما متظاهرتين أنّهما تشتبكان بالأيدي، فتغتمران، ثمّ تعاودان الجري من غير هوادة، وقد أطلقتا ضحكاتهما على سجيّتها. والشابان يتبعانهما بنظراتهما السعيدة، وقد شعّت بأنوار الفرح. ثمّ ألقى عماد يده على كتف صديقه وهزّها قليلًا وقال له:

- مهى فتاة جميلة وطيّبة العشرة. ألا توافقني الرأي؟

فأجاب زياد:

- سؤالك يا عزيزي حمل الجواب. بلى، تعجبني كثيرًا. وصِرتُ أميل لها.

- وهي تبادلك هذه المشاعر.

- كيف عرفت؟

- راقبتُ نظراتها إليك طوال الطريق من بيروت، واهتمامها بكلّ ما تقول أو يبدر منك.

وأنا لاحظت ذلك. ظننتُ أنّ ميرا أخبرتك بأمرٍ ما عنها.

- "اسأل مجرّب ولا تسأل حكيم".

فاستغرقا في ضحكة طويلة، جذبت اهتمام الفتاتين إليهما، فسارعتا تستوضحان الأمر. فقال عماد:

- عليّ أنا إخبار ميرا. وعلى زياد إخبارك يا مهى عندما يكون الوقت مناسبًا.

فرمقتا بعضهما بنظرة حائرة، ثمّ قالت ميرا:

- تعبنا من الجري، تعالوا نسترح في ظلّ شجرة الجوز الوارفة تلك.

فأسرعوا إليها، واستلقوا في ظلّها يتسامرون ويتبادلون النكات. وفي لحظة سكون قالت ميرا:

- يا الله. تعود بي الذاكرة الآن إلى سنوات مضَت، عندما كان والدي ينصبُ لنا أرجوحة بين شجرتين في حديقة منزلنا. كم هي جميلة وممتعة. كنّا نعلو ونهبط بها. وكنتُ أصرخُ كثيرًا عندما كان والدي يدفعني بقوّة، وتتشنّج يداي وأنا ممسكة بالحبل بكلّ قوّتي مخافة أن أهوي على الأرض. كانت لعبة رائعة.

قال عماد:

- ما رأيك أن تتحوّل هذه الذكرى الجميلة إلى واقعٍ جديد؟

- كيف؟ هل تفكّر؟

وقبل أن تنهي كلامها قال:

- أجل، نستطيع أن ننصب الآن أرجوحة بين شجرتي الجوز هاتين.

فقالت بعفويّة:

- حبيبي، تفكّر جديًّا في الموضوع.

- أجل، تعال معي يا زياد نحضرُ حبلًا متينًا من المنزل، وطرّاحة للجلوس عليها.

عندما غادرا، اقتربت مهى من صديقتها واحتضنتها وقالت:

- كم يحبك عماد. هو شابٌّ رائع. وفي مطلق الأحوال هو الرابح.

- أنا محظوظة بصداقتك يا مهى. وأتمنّى لك الحظّ السعيد أيضًا. أشعر بخفقان قلبك، أليس الحظّ السعيد قريبًا من هنا؟

- بلى، هو معنا، ولكن...

وتردّدت في كلامها. فقالت ميرا:

- أنا على يقين أنّه مهتمٌ لأمرك. ستتوفّر لكما الفرصة لتتصارحا.

وتركتا لنسيم عليل يكملُ وشوشته لأوراق الجوز.

عادا بالحبل، فربطاه بين الشجرتين، وبدأ كلّ واحدٍ يصعدُ بدوره ورفاقه يقذفون عاليًا، بين ضحكات تجاوبت أصداؤها في جنبات الحديقة، وأصوات مستغيثة راجية التوقف عن التأرجح، حتّى مالت الشمس إلى المغيب، فجلسوا يلتقطون أنفاسهم. وقالت ميرا:

- ما أجمل العودة سنوات عديدة إلى الوراء.

فاستدركت مهى وقالت:

- بل ما أجمل عيش الطفولة حتّى ولو كبرنا في السّن.

ثمّ دخلوا المنزل لتناول طعام العشاء. وكانوا لا يزالون إلى المائدة عندما قرع الباب، فأسرع عماد يفتحه، وعاد ليبلغ والده أنّ ضيوفًا جاؤوه.

بعد تناول طعام العشاء آثر عماد أن يمضوا السّهرة على شرفة الطابق العلويّ، بعيدًا عن السّاهرين. ونسائم المساء العليلة تبرِّد أجسادهم الفتيّة بعدَ أن اشتعلت حماسًا وحبورًا طيلة النهار. فتمدّدوا باسترخاء على مقاعد وثيرة. وقال زياد:

- بالفعل يا عماد، أمرٌ ملفتٌ للانتباه هو وفرةُ الزائرين لكم. فمنذ وصولنا لم ينقطع سيلهم. هل هو أمرٌ طبيعي عندكم؟

فقال عماد:

- موعد الانتخابات قد اقترب.

- الانتخابات؟ لا تزال بعيدة، ليس أقلّ من ثلاث سنوات من الآن.

- لا أقصد الانتخابات النيابية، بل البلديّة. ستجري بعد أشهر قليلة.

- هذه الزيارات إذًا نشاطٌ انتخابي. يبدو أنّ لوالدك علاقة بها.

- نعم، هي حركة استعداد لهذا الاستحقاق. لتكوين التحالفات، وتأليف اللوائح، وإجراء المفاوضات وحشد الأنصار.

فعلّقت مهى:

- هذا ما يحصل عادةً في القرى، اجتماعات في المنازل. لا زلتُ أذكرها جيدًا في قريتنا. إذ كانوا يزورون والدي من وقت إلى آخر. ولكن ما يجري في منزلكم غير عاديّ، فهو لا يفرغ أبدًا.

أجاب عماد:

- في هذه الأيام تجري حركة ناشطة لتكوين التحالفات باكرًا. فكلّ طرفٍ يسعى لكسب حلفاء يؤمِّنون له الفوز الأكيد.

فقالت ميرا:

- وهل أمر التحالفات هذه منوطة بعائلتكم؟

- نعم، عائلتنا لها دورٌ كبيرٌ في هذا الشأن. ووالدي هو زعيم هذه العائلة، وهو الذي يحلّ ويربط فيها.

نظر إليه الرفاق بدهشة واستغرابٍ. فأدرك أنّ عليه أن يفسّر الأمر لهم. فقال:

- القصّة أنّ قريتنا، وأسوةً بغالبيّة القرى في لبنان، تنقسم سياسيًّا -إذا جاز هذا التعبير هنا- إلى عدّة عائلات، تتناحر فيما بينها على تزعّم القرية. وكما تعلمون، يشكّل المجلس البلدي والمجالس الاختياريّة رمزَ هذه الزعامة المحليّة. وفي قريتنا، تعتبر عائلتنا من العائلات الأساسيّة الكبيرة. وكان جدّي، رحمه الله، يتزعّمها، وقد ورث هذه الزعامة عن والده، ولمّا توفي انتقلت عباءة الزعامة إلى والدي بصفته الابن الأكبر لجدّي. ولكن والدي كان يرتدي الزيَّ العسكري، لم يكن باستطاعته القيام بنشاطات سياسيّة. أمّا الآن، وبعد أن خلع هذا الزيّ أصبح بمقدوره أن يلعب الدور الذي أنيط به في تزعّم العائلة، وترؤّس المجلس البلدي.

قال زياد:

- وأنتَ الوريث الشرعي لوالدك في المستقبل.

صمت عماد لبرهة ثمّ قال:

- أتعرفون، لا أجدُ عندي رغبة لأرث والدي وأكون زعيم عائلة. على الرّغم من أنّ الجميع يشيرون إلى هذا الأمر منذ الآن.

فقالت مهى ضاحكة:

- يعتبرونك وليّ العهد.

- نعم، هم يعتبرونني كذلك. ولا أدخل معهم في نقاشٍ. لا يزال الأمر باكرًا، وباكرًا جدًا على مثل هذا الحديث.

سألت ميرا:

- هل تقوم الانتخابات البلديّة والاختياريّة على العصبيّة العائليّة فقط؟ وأين دور الأحزاب فيها؟

فأجاب عماد:

- هناك مناصرون للأحزاب في قريتنا، وعددهم وفير. هم لهم دورٌ ووزنٌ في الانتخابات النيابيّة، ويتراجع دور العائليّة. بينما ينعكس الأمر في الانتخابات المحليّة، فيتراجع دور الأحزاب أمام العصبيّة العائليّة. وفي كلّ الأحوال، هناك تداخلٌ عجيب غريبٌ بين الحزبيّة والعائليّة، وفي بعض الحالات تجري تحالفات بينهم.

قالت ميرا:

- لكنّ هذا يؤثّر سلبًا في العملية الانتخابية. فيجري اختيار المرشّحين الذين يؤمّنون العدد الأكبر من الأصوات، بغض النظر عن مستواهم وكفاءتهم وأهليتهم.

- نعم، هذا بالفعل ما يجري.

علّق عماد على كلامها، وأردف: فتجري الانتخابات دون برامج معدّة سلفًا، ودون خططٍ واضحة ولا تصوّرٍ إنمائي. المهم أن تفوز العائلة وتكسر شوكة العائلة المنافسة.

وقال زياد:

- المهمّ قتل الناطور لا أكل العنب. يا للأسف.

وقالت ميرا:

- نعم، يا للأسف، لا زلنا نعيش في منطق الزعامة والوجاهة، وليس في منطق الإنماء والحداثة.

وتنبّهت إلى أنّها ذهبت بعيدًا في كلامها، وهي في ضيافة وجيهٍ من وجهاء العائلات. فعضّت على شفتها بقوّةٍ حتّى كادت أن تدميها، وهي تنظر بعينين منكسرتين إلى عماد، وتشيح بهما إلى أرضيّة الشرفة كأنّها تبحث عن مخرج لهذا الإحراج الشديد الذي وضعت نفسها به. لكنّ عماد تنبّه إلى حراجة موقفها فقال:

- لا تتضايقي يا ميرا، فأنتِ ما نطقت إلا بالصواب، ونحن جميعًا مقتنعون بما قلتِ.

فقالت ميرا:

- هذا أمرٌ يا عماد، وموقف أهلك أمرٌ آخر. فوالدك إنسان لطيف، طيّبٌ، ومتواضع جدًا، لا يتصرّف على أنّه زعيم عائلة. وهو قد وُضع في هذا الموقع، وكُتب عليه أن يحمل الراية التي حملها أجداده، فهو غير ملومٍ أبدًا، ولا يمكن لأحدٍ أن يوجّه إليه أو لغيره من الوجهاء المحليين، تهمًا ما، أو يحمّلهم مسؤولية معينة. هي تركيبة اجتماعيّة متوارثة.

قال عماد:

- من حقّنا وواجبنا أن نطوّر مفاهيمنا ونظمنا. وإنّ الانتظام الطبيعي لبلوغ مجتمع مدنّي عصريّ، هو العبور من العائلية والمناطقية الضيّقة بجغرافيّتها وتصوّراتها، إلى عمل الأحزاب والتيارات والمجموعات التي نشأت على أسس فكريّة، وتحمل رؤى واضحة، وتخطّط لمشاريع وطنيّة شاملة. وكلّ مواطن يختار من هذه المجموعات ما يناسب قناعاته ويلبي طموحاته.

فسأله زياد:

- وهل تستطيع أنت، على سبيل المثال، أن تنتقل بالفعل إلى التصوّر الذي ذكرته؟

- أعترف أنّ الأمر معقّد. أنا مؤمن بما ذكرت، وأطمح إليه. ومن جهّة أخرى هناك عائلتي ومحيطي. أنتم تدركون كيف أنّ الأهل يضعون كلّ آمالهم بأولادهم. هذه الآمال والتصوّرات ورثوا بعضها، وبنوا بعضها الآخر. فليس من السهولة أن تهدم الموروث منها. في الأمر كمٌّ من العواطف والأحاسيس تربطك بهم. عندما تنظر في عيني والدك المفعمتين رجاءً بك، وعندما تنام وتصحو على صلوات والدتك تدعو لك بالخير والتوفيق، وعندما تُطلق عمّتك أو خالتك أغنية الآويها في الأفراح تفخر وتمجّد بك مشفوعة بجوقة من زغاريد النسوة. الأبُ يخبئ في نظرات عينيه مستقبلك المقرون بمستقبل عائلته، تحمل اسمه من بعده "اللّي خلّف ما مات". تشعر أنّك تغدر بهذه النظرات، وتقتلع هاتين العينين اللتين ما تكحّلتا إلاّ برؤيتك أنت. والأمّ تستدعي الربّ والأولياء الصالحين والقدّيسين كي ينيروا لك طريقك، ويسهّلوا مسالك دروبك، خفقان قلبها على جانبي عمرك، وزفرات صدرها تمدّك بنسغ الحياة.. تشعر أنّك تُلحدُ هذه الصلوات، وتلوِّث تلك الزفرات. والعمّات والخالات اللواتي بنين لك في أغانيهنّ قصورًا وأبراجًا، تشعر أنّك تُسَخِّفُ زغرداتهنَّ، وتطعن حماسهنّ، وتهدم تلك العلالي والقصور.

كانت كلماته تنساب في تلك العتمة الهادئة، نبرةً مشحونة بدفق انفعالات مصهورةٍ، اخترقت آذان السامعين وقلوبهم، وسيطرت على حواسهم، فما عاد إلاّ ذلك الصوت الشجيّ، تعزف له أغصان الأشجار وتتراقص أوراقها اللامعة بنتفِ أضواءٍ يرسلها قمرٌ شاحبٌ ونجومٌ دهريّة.

وما دَرَت ميرا كيف وقفت من مكانها، وتقدّمت خلف مقعد حبيبها بخطوات متمهّلة كأنّها خشيت أن تخدش صفحة هذا الهدوء المطبق. حضَنَت رأسه بكلتا يديها وانحنت فوقه، فهربت دمعاتٍ مشوقةً من عينيها فوق شعره، فزادته نديًّا.

تنبّه زياد إلى حميميّة الموقف، فغمز مهى من طرف عينه، فوقفت وسارت معه إلى الطرف الآخر من الشرفة، فاتّكآ على سياجه، وقد أدارا ظهريهما إلى العاشقَيْن. فآنس عماد لوحدتهما، أمسك بيدي ميرا وقرّبهما من فمه وأغرقهما بلثمة مشحونة. فتملّكتها قشعريرة دبّت في مفاصلها، وتركت فيها خَدْرًا لذيذًا. أمّا هو، فاشتعلت جوارحه، فأدارها إليه وأجلسها على ركبته وأحاط رأسها بذراعه، فاتّكأت به على كتفه وأغمضت عينيها، واستسلمت إلى خفقان قلبه.

وقفت أمام شرفة غرفة نومهما، تسرِّحُ نظرها خارجًا، فوقفت صديقتها إلى جانبها وقالت:

- أتذكرين التفسير الذي أعطاه "سيرانو" عن القبلة في روايتك المفضّلة.

- بالطبع، أنا التي أذكر.

- طعمها كما ذكرَ. أليس كذلك؟

تنهّدت بعمق، ومرّرت أناملها على شفتيها، وقالت:

- أجل، بل أشهى ممّا قال.

وعادت مهى تجلس على حافّة سريرها، بينما ظلّت ميرا تحدّق إلى الخارج. سألتها: ألم يخبرك عماد سابقًا عن موقع أسرته ووالده في قريته؟

تركت النافذة، وجلست قبالة صديقتها وقالت:

- لا، لم يخبرني عن هذا الموضوع. كان دائمًا يذكر لي مزايا والده الطيّبة، والاحترام الكبير الذي يلقاه في مجتمعه، وتضحيات عائلته وعملها الدؤوب. لكنّه تجنّب الخوض في هذا الشأن.

- غريبٌ، مع العلم أنّ آخرين يتباهون به.

- صحيح، الغالبية يتباهون. أمّا هو فلا، بل تسترّ عليه. ولكن على الرّغم من أنّه أخفاه عنّي، فلم أشعر بانزعاج من ذلك. فاجأني، لكنّه لم يغضبني. أتفهّمه تمامًا، هو لا يتباهى، بل على العكس من ذلك، هو محرجٌ كثيرًا بسبب تعارض واقع أسرته مع قناعاته الفكريّة.

توقّفت قليلًا ثمّ قالت:

- والآن إلى النوم. فسلطان الكرى يصارع جفوني.

- هيّا ننام يا روكسان.

وضحكتا بصوتٍ مرتفع. وقبل أن تغفوا قالت ميرا:

- يجب أن تشكريني.

- علام؟

- سنحت لكما الفرصة أيضًا للانفراد.

- نعم، كانت فرصة ذهبية في هذا الجوّ الرومانسي الأخّاذ.

- تحدّثتما؟

- قليلًا. لكنّ قلبي خفق كثيرًا وعيناه تبحران في عينيَّ، وأنفاسه تلفح وجهي وتخرق صدري بنشوةٍ سحرّية.

- يا الله، يا الله. كيف أنّ الحبّ يختار كلماتنا. كم أنا سعيدةٌ لأجلك يا عزيزتي. غدًا يومٌ آخر.

وفي اليوم التالي، اختاروا أن يقوموا بنزهة بعيدًا عن المنزل في السهل الواسع. فمشَوا متمهّلين حينًا، ومسرعين أحيانًا، يجرون سباقًا في الجري ويستريحون. يدورون حول أشجار متناثرة على جانبي الطريق، حتّى وصلوا إلى غيضة صغيرة، تفجّر منها ينبوع صافٍ، تنساب مياهه في قناة نحو السهل ليروي مزروعاتها. وظلّلتها أشجار عملاقة، توزّعت تحتها مقاعد حجريّة، ما إن لمحوها حتّى أسرعوا إليها يستريحون بعد سير طويل. وإذ التقطوا أنفاسهم، حتى أشار عماد إلى ميرا، فاستأذنا الصديقين ومشيا منفردين في السهل.

تعمّد زياد أن يجلس قبالتها، وقال:

- أنتِ صديقة ميرا منذ الطفولة، أليس كذلك؟

- أجل. فتحنا أعيننا في القرية على بعضنا، وترافقنا في كلّ سنوات الدراسة. وما انفصلنا يومًا فإذا ضاعت إحدانا، وجدوها مع الأخرى. وكنّا نأبى إلّا أن نجلس متجاورتين في الصفّ.

فقاطعها زياد ضاحكًا:

- حتّى تجاورَتْ مع عماد على حسابي، عندما انتقلت إلى مدرستنا.
فأجابت ضاحكة أيضًا:

- أخبرتني بذلك...

- الصداقة كنز الإنسان الحقيقي في هذه الحياة. اختبرتها مع عماد. فنحن صديقان لصيقان منذ السنة الثانوية الأولى.

- ونِعمَ الصديق أنت يا زياد. فعماد موفّق بك.

- كما ميرا موفّقة بكِ. ولكن ما أدراك أنّه موفّقٌ بي؟

وأردف ضاحكًا: ربّما كنتُ "لزقة" له.

- لا، فبالفعل عماد موفّق بكَ، هذا واضحٌ جليٌّ. تُخبرني ميرا عنك، فعندما تفقد عماد تجده عند زياد.

تطلّع إليها بنظرة جريئة وسألها:

- وأنتِ، كيف تجديني؟

فقابلته بنظرة مماثلة، وقد تسارعت أنفاسها وهي تعلم أنّ بعد كلّ هذا الجري قد وصلا المصبّ. وقالت:

- وهل يهمّك رأيي؟

- كثيرًا.

- كلّ فتاة تتمنّى محادثتك والتّقرب منك.

- وأنا أتمنّى التقرّب من فتاة واحدة.

مشت الخطوة الأخيرة وسألته:

- وأنت، كيف تجدني؟

ثبّتَ عينيه في عينيها وقال:

- مهى، أنتِ الفتاة التي أتمنّاها وأنشد حبّها.

فلمعت عيناها بومْض بريقٍ، وشعّت منهما ابتسامات فرحٍ، وقالت وقلبُها يرقص في صدرها:

- قلبي خفق لك يا زياد، ومشاعري سجينة نظراتك.

فأمسك يدها وقال:

- تعالي نقولها سويًّا، ما رأيك؟

فهزّت برأسها موافقة، فقال:

سأعدّ حتّى الثلاثة، وبعدها مباشرة.. واحد، اثنان، ثلاثة.

فنطقا معًا:

- أحبّك، أحبّك، أحبّك.

***

بيار حبيب

الأربعاء 21 تشرين الأول 2020