­

Notice: Undefined index: page in /home/lbnem/domains/monliban.org/public_html/monliban/ui/topNavigation.php on line 2

كتاب البطريرك السادس والسبعون تاريخ فرد وأمّة

د. جان نعوم طنوس

عرفته فتى ثابت الجنان، نَذَرَ حياته ليحمل صخرة العبث، ولكنه يحملها بفرح ورجاء، وأجرؤ فأقول إنه ارتضى لنفسه صَلْباً يومياً على خشبة هذا الوطن، غير أنه صلب يؤدي الى ولادة مغايرة، فكأن جمعة الأحزان، كما يقول نيتشه، نعم نيتشه، تستحيل فصحاً مجيداً. ما تنازل قطّ عن مهمة صعبة أثقلت كتفيْه، فهو كمن يسكن الأنقاض فيما ترنو عيناه الى منازل النجوم، أوكسجين في وضع خاص - كلنا سجناء هذا الوضع - في الوقت الذي يعزف على قيثارة الأمل أغنية تكاد لا تميّز الفرح فيها من الألم!

فتى الأرز

انطوان سعد، فتى الأرز الأغرّ، مشحون حماسة على هدوء، شكاك على يقين، ينسف الجسور ويبنيها في وطن بات بلا جسور. يتشبث بالماضي، لكن هذا على أهميته، ليس إلا نقطة انطلاق لا نقطة وصول. يحاور، فيؤيد ويعارض، يلتقي بالآخرين فيهاجم هجوم من يتأنّى لا من ينطلق كعاصفة هوجاء تدمّر ولا تبني.

كلما تحدثت الى أنطوان سعد، شعرت بأن كيانه برمته يصغي إليّ، فإذا عنّت على باله خاطرة هبّ هبّة واحدة منصرفاً بكليته الى ملاحقة ما خطر على ذهنه، وعندما ينتهي من عمله يعود اليك مصغياً بعمق، متأملاً بشرود، محاوراً بين رفض وقبول، منتقداً برفق وكأنه يقترح عليك أو يلتمس لك مخرجاً. والنقد، في رأيي، جزء من ممارسة الحياة، إذ لا خير في حياة لا تنتقد نفسها بنفسها، فلا تحيا ولا تموت.

أمير الافراح والأحزان

من رحم الآلام اللبنانية ولد هذا الرجل الأربعيني، ذو السمرة الغامقة وكأنها سمرة صلاح لبكي، أمير الأحزان والأفراح. لقد أدرك ربيب كفرقطرة، منذ أن فتح عينيه على النور، ان عصرنا كومة رماد، ولكنه يصرّ، ولا يزال، على تحويل الرماد الى نار دافئة، ولا نقول الى نار ثائرة لا تبقي ولا تذر. فليست الثورة الهوجاء من شيمه، ولا من شيم كاتب هذه السطور، وإنما التغيير الهادئ، لا جنون العواصف، شبيهٌ ببذرة قمح مدفونة في أحشاء التراب، تموت لتحيي الآخرين.

محاور بارع

ومن قمة القيم التي بانطفائها ينطفئ شيء كبير في وطن الارز، ينطلق هذا الكاتب والإعلامي خارج الحدود والمسارات، يمزّق الأقنعة تمزيق من يحنو ولا يقسو، ويتلألأ بنور يشعّ من جبل الأحزان، محاور بارع، رصين، تمازج رصانته ابتسامة لا تدري أهي ابتسامة الحب أو السخرية اللطيفة الذكية. هادئ مع أن في فؤاده بركاناً صغيراً ينفث لا حمماً قاتلة، بل أنيناً خافتاً ليهزّ السُبات القائم. لا يلين في حواراته ولا يقسو، شأنه شأن الطبيب الذي يعرف ان الرأس، إذا أصابه الصداع، فينبغي مداواته لا قطعه. وما أكثر الأطباء الذين يودون معالجة المرضى بقطع رؤوسهم! وما أكثر أولي الأمر الذين أثخنوا لبنان المريض بحقنٍ أشبه ما تكون بالحِراب!

ولربما لم يبلغ صاحبنا ملء قامته، من الناحية المعنوية، إلا بعد اتصاله بأبيه الروحي البطريرك مار نصرالله بطرس صفير. لقد استمد منه مقومات كثيرة، كالتواضع المعرفي، فلا معرفة دون تواضع، والإعتدال في بلد مشرّع الأبواب والنوافذ لكل تطرف أهوج، والقدرة على الحوار والاستماع بلا أفكار مسبقة تعيق عملية التفكير. واستمد منه أيضاً وأيضاً التشبث بالجذور، وهي التي تجعل الشجرة اللبنانية ضاربةً في العمق، وفي الوقت نفسه شامخة في العلو، فلا ارتفاع دون جذور، ولا عظمة دون هذا النسغ الحيّ.

كتاب توثيقي

السادس والسبعون، مار نصرالله بطرس صفير، الجزء الاول ١٩٨٦ - ١٩٩٢ كتاب توثيقي صدر عن دار سائر المشرق للكاتب والإعلامي أنطوان سعد. ولعل أول ما يلفتنا في هذا السِفْر الجليل أنه تاريخ فرد وأمة، وقل إن الفردي فيه، وهو ما يتصل بالسيد البطريرك، يندمج بالعام حتى لا انفصال بين الإثنين. أضفْ الى أن هذا التوثيق، الموزّع على محطات تاريخية بارزة، شبيه بالفن الروائي، فأنت ما إن تنهي فصلاً حتى تتشوق الى مطالعة فصل آخر، ولا تغادر مرحلة حاسمة حتى تستأثر بكيانك مرحلة أخرى. فهو توثيق روائي، لا بمعنى السرد القصصي، وإنما بمعنى تتبع أدوار متلاحقة تحبس أنفاسك في صدرك. ولا عجب، فالرواية اللبنانية قصة متسلسلة، دامية، متكاملة تكامل آلام هذا الوطن الذي مزّقه بنوه، ولعلها قصة تدعونا الى التأمل العميق في ما كنّا عليه وما صرْنا إليه.

إن كتاب انطوان سعد عن السيد البطريرك حافل بالوقائع الكثيرة الدقيقة . وأحسب أنه لا يجوز تأريخ تلك المرحلة بعيداً من شهادة رجل أدّى دوراً بارزاً فيه، ولسنا معنيين، هنا، بالتفاصيل الدامية، في رواية التمزق والصراع، وإنما نحن معنيون بتلقف العبر. ألم يحن الاوان بعد لنتفق على كلمة سواء بعد

مرور خمس وثلاثين سنة من التباغض؟ لماذا نكره أنفسنا

هذه الكراهية الهائلة؟ لماذا نتخاصم، وفي هذا التخاصم

خسائر مادية ومعنوية، أهمها تمزيق اللحم الحيّ للتعايش الوطني؟

جراح عميقة

إني كلما تأملت أحوال الكيان اللبناني تذكرت أبياتاً لأحمد شوقي، وهو القائل: إلامَ الخلْفُ بينكم إلاما؟/وهذي الضجةُ الكبرى علاما/وفيمَ يكيد بعضكم لبعضٍ/وتبدون العداوة والخصاما!. ويقول أيضاً الشاعر الكبير أدونيس علي أحمد سعيد ما ينبئ عن جراح عميقة: أحار، كلَّ لحظةٍ أراك يا بلادي/في صورة/أحملك الآن على جبيني، بين دمي وموتي: أأنت مقبرة/أم وردة. ثم يضيف: قتلتني قتلتِ أغنياتي/أأنت مجزرة أم ثورة؟/أحار، كل لحظة أراكَ يا بلادي في صورة...

ولكن،

من قمم الأرز الحانية رأسها حزناً على شعب منكوب، من صنين العالي المتفجر غيظاً وألماً، من بشري وبسكنتا والفريكة، ثلاث قرى أنجبت أكبر عباقرة لبنان، نخوض هذا الليل الطويل أملاً بصباح لبناني، صباح وئام لا خصام.

وعلى سرير الآلام يولد الفجر الطفل،

ومن الدموع المنسكبة تتلألأ رؤيا مغايرة،

وفي القيود الثقيلة نتلمس تباشير صورة جديدة،

إن منطق التحولات عجيب في الأفراد والجماعات،

فعلى صليب العذاب تنبت ورود التعزية وأزاهير الآمال،

أما الشخصيات النبيلة والعظيمة،

فتستمدّ الحكمة من الجنون،

والعزيمة من الهزيمة

ومن كوم الرماد ومساحات الحرائق،

زنابق بيضاء لعلها ترمز الى قلوب طهرتها الآلام!.

د. جان نعوم طنوس

الأنوار

الاربعاء 9 نيسان 2014