سياحة عبر علامات الاستفهام
يوسف طراد
عندما تقرأ رواية (حين تعشق العقول) للدكتورة ناتالي الخوري غريب، الصادرة بطبعتها الأولى عام 2015 عن دار سائر المشرق للنشر، تتأكّد بان لا عشق إلّا بالعقول لأنها منبع الإحساس.
ثلاثماية وإثنان وعشرون علامة استفهام، ختمت ثلاثمئة وإثنين وعشرين سؤالًا، كأنها بيادق خادمة لسرّ الرواية الذي هو علامة الاستفهام الكبيرة. هذا الكمّ الكثير من الأسئلة الموزّعة على سبعين ورقة بمعدّل أربعة أسئلة ونصف لكلّ ورقة بصفحتيها، غالبًا ما انكشفت أجوبتها قبل طرح الأسئلة على القارىء الشغوف للمعرفة، الحبّ، التاريخ، الحضارات، الثقافة، الأديان، والفلسفة، إمّا من خلال السرد أو من باب الإمعان في الخيال الخصب المسيطر على المعاني.
صوفي بطلة القصّة من أمٍّ أفريقية ذات عرقٍ أسود، وأبٍ لبناني ذي عرقٍ أبيض. لكن (الميلالين) الأسود كان المسيطر، ليذكّرها أن جواز سفرها اللبناني والذي اكتشف انتهاء صلاحيته موظّف الأمن العام، لا يجسّد انتماء فكرها وجسدها الموجودين في خضم بحرٍ من التناقض الرهيب من جراء التشتّت. توفي والدها في ليبيريا، ونقل جثمانه إلى لبنان. بالرغم من حبّها الكبير له شعرت شعورًا غريبًا كشعور غريب (ألبير كامو) عند حضور مأتم والدته الذي كان خاويًا من الأسى، لكن شعور صوفي بالحزن الكبير لم يعوّض خواء شعور مجتمعها من الاعتبار لشخصها كونها مختلفة في السّمات واللون. فلامبالاة الغريب وضعته بعيدًا عن محيطه وفي وضعٍ حرج أثناء محاكمته، لكن بطلة القصّة نالت النتيجة نفسها حتى قبل الدفن، لانتماء خلاياها إلى جينات مختلفة عن جينات محيطها، رغم صلة القرابة. لأنها للأسف وجدت في مجتمع لا يضع معايير لرجوح العقل بعيدًا عن العنصرية.
عاد إليها حبّ قديم كان قد تخلّى عنها بحجّةٍ مخفية. فبدأت رحلة البحث عن الحقيقة بعيدًا عنه. علّها تجدها في انتماء روحاني خارج قيد النفوس الذي مزّق كيانها بين هويتين. كانت رحلتها إلى بلاد الأساطير شبه الجزيرة الهندية، فعشقت عقل إبراهام أحد أتباع البهائيين. كان عشق العقول المتبادل كفيل بقطف لحظات الفرح والحبّ في أوانها، قبل أن تهلك في غد خبأ لها مفاجأة من العيار الثقيل. إبنها الذي ولدته في أفريقيا من والد خارج إطار الزواج، كان سرّ أبيها قبل مماته. اِنكشف لها هذا السرّ بواسطة رسالته التي كشفها أخوها وأرسلها لها عبر البريد الإلكتروني. رسالةٌ تؤكّد أن ابنها ما زال حيًّا يرزق خلافًا لما قيل لها بعد الولادة. مما جعلها تغادر على وجه السرعة للبحث عن حقيقة ومكان وجوده. بعد انجلاء طلامس السرّ عادت إلى الهند لتجد الذي عشق عقلها وحضورها بانتظارها.
اِرتحلت الرواية بين لبنان وليبيريا والهند. أرشدتنا إلى أكثر من بابٍ وبابٍ للعلم والخيال والثقافة والفلسفة الدينية المتنوعة. كلّما دخل القارىء بابًا فتح أمامه ألف باب كأن عبر هذه الأبواب حوارات بين ذوي الألباب. من دون جواز سفر أو دليل سياحي، يسوح القارىء في أرجاء الهند. الرواية هي جواز السفر والدليل، هي التي وشمت بلذّة ومن دون ألم المعابد والأمكنة الأثرية والقصور والقلاع ونهر الغانج العظيم في عقول قرّائها. هي التي جعلتنا نمارس الطقوس بالخيال كأنه واقع. صعدنا في (توك توك) الدرّاجة ذات الثلاثة دواليب. دخلنا معها معبد الإله (فيشو). أبهرنا وصفها لمعبد (اللوتس) الذي بناه البهائيون. اِكتشفنا أسرار قلعة المغول الحمراء في (أغوا). خطفت انتباهنا قوّة جريان مياه نهر الغانج. ذهلنا من طقوس الغطس بداعي تحقيق أمنيات لا تتحقّق إلّا لمن يؤمن بهذه الطقوس. في مقلبٍ آخر من الرواية مشينا عبر شعاب منازل الطين في ليبيريا، البلد الغني بموارده الطبيعية المستغلّة من الغرب، الذي أذكى الفتن بين السكان من أجل السيطرة.
لم تستغرب صوفي الطقوس التابعة لكلّ دين وعقيدة وعدد كهنتها ومشايخها ورهبانها وقساوستها المترامية في أرجاء الهند الواسعة، هي المؤمنة بالسيّد المسيح، وإن كان لديها توجّهات أخرى تنم عن فهم جميع الأديان لأنه يدخل في ضمن اختصاصها. لم تغص في صلب الأديان خلال الطقوس التي مارستها مع إبراهام، بل كان شغفها بداعي السياحة والاستكشاف. "فهناك ما يسمّى بالضمير الديني في المرصاد دومًا". جعلتنا الراوية في خواء من واقعنا الإيماني المقرون بالخلاص، بالمقارنة مع إيمان الطوائف العديدة في الهند، المتّسم بالحرارة التي تذيب جليد طرقات الشك، لتصويب المسار نحو القداسة والاتحاد بالألوهية. ظهر هذا في إستقراطية ممارستنا لديننا المسيحي في هذه الأيام خلافًا لأجدادنا. "أي إله هذا الذي يسمح بطقوسيّات لا حرارة فيها".
جعلت الرواية الحرّية كلغة الموسيقى، تفهم نوتتها جميع الشعوب: "الحرّية أن تنتمي إلى من تريد: إلى البلد الذي تريد، إلى الدين الذي تريد، إلى العوائل التي تريد". كان رابط الدم والرحم فيها أقوى من الحبّ، والدليل رحيل البطلة إلى المجهول للتفتيش عن إبنها. لكن عندما تتحدث ناتالي غريب عن الحبّ، يتحول الكلام إلى شعر مسكون بإحساس آلهة. تُلقننا درسًا مفاده أن الحبّ سيبقى الخلاص لمن استطاع الوصول إليه سهوًا أو سبيلًا. "- بم رشوت فكري يرفض رقصًا إلّا بين يديك؟ كيف خدّرت عقلًا أيقظته سنوات، يغفو ليحلم ببريد من دمع عينيك؟ كيف تسلل طيفك إلى مخدعي؟ يظللّني؟ أنام وأصحو بين خديه؟ أكنت عاشقة أم ساحرة أم لاهية، فقد علقت بحب لن يفارق ثلاثًا: كيانك وكلامك ومقلتيك".
حبّ إبراهام الضابط المتقاعد من الجيش الأميركي. هذا الحبّ الجارف الصادر من العقل والقلب ذكّرنا بنهاية قصيدة الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم عن حبه لخلاسيةٍ وكانت بعنوان (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت): "ولونك في لوني/ فنيت فيك فضمينى/ إلى قبور الزهور الإستوائية/ إلى البكاء/ وأجيال البعودية/ ضمّى رفاتي/ ما أحلى عبيرك/ ما أقواك/ عارية وزنجية".
علمتنا الرواية أن لا ننهزم حتى لا نندثر في العدم، إذا كنّا نطمح لحياة ذات معنى ونبض في الوجود. جعلت الخلاسيين يحلمون بحلم يرسم أوطانًا أخرى من الحنين المفقود كي لا تبقى المآسي متواصلة في الترحال بين أوطان ومنافٍ.
الفلسفة العميقة وأسرار الوجود، الأنس في الخواء العاري إلّا من الحبّ، الأسئلة المترائية على زجاج قصور المدن العابرة، أقدار المنافي والترحال، دعاء الآلهة، سرّ الأسرار وأناشيد النهر والمطر، كانت مرايا صحونا الدائم من بين جدران العتمة التي سكناها ملامح رماد وأرق قبل القراءة. حتى الإهداء الشخصي انسحب على المضمون حيث رحل كاتب هذه المطالعة المتواضعة في فضاء الرواية متأمّلًا أقمار الأفكار تسرح في سهول السرد الذهبية: "حضرة الأستاذ الصديق يوسف طراد المحترم، كلّنا في حضرة الكلمة والحياة، نقوم بمحاولات علّها تضيف معنى ما إلى وجودنا /محبتي/ ناتالي.
يوسف طراد
الجمعة 22 أيار 2020
• تجدون الكتاب في المكتبات اللبنانية وفي دار النشر في نهر الموت (رقم الهاتف 01/900624). ويمكنكم طلب الكتاب عبر خدمة الواتساب على الرقم التالي: 70/808484.
• التوصيل مجاني مع مراعاة كافة الشروط الصحّية.