لبنان يعود إلى العصر الحجري
ألكسندر نازاروف
لعقودٍ مضت، تعوّد اللبنانيون أن ينفقوا أكثر مما تسمح به إمكانياتهم. وبينما تمسّك البنك المركزي اللبناني بربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي عند نفس المستوى، لم يترك الليرة تضعف، وهو ما أدّى إلى المبالغة في قدرتها الشرائية، وبالتالي انعكس ذلك على مستوى معيشة اللبنانيين.
لكن عليك أن تدفع مقابل كلّ شيء، والمقابل في هذه الحالة هو الدين المتزايد على الدولة. في لحظةٍ من اللحظات، توقّفت المؤسّسات في الخارج، عن إقراض الحكومة اللبنانية فلجأت إلى المصارف المحلية. عادةً ما يحدث الإفلاس مبكرًا عن ذلك التوقيت بكثير بالنسبة إلى المديونين، إلّا أن لبنان ورث عن الحقبة السابقة نظامًا مصرفيًا، يتجاوز احتياجات اقتصاد البلاد بمراحل، فكان لدى المصارف اللبنانية الكثير من الأموال.
شرع البنك المركزي وجميع الحكومات السابقة والمصارف التجارية اللبنانية ببناء هرم ائتماني ضخم، فاجتذبت المصارف رأس المال الأجنبي واللبناني بنسبةٍ أعلى مما كانت عليه الفائدة في معظم دول العالم، وأقرضت الحكومة اللبنانية بنسبةٍ مرتفعة. أمامنا مثال كلاسيكي لسلسلة بونزي (نظام بيع هرمي متسلّسل يحمل اسم تشارلز بونزي)، مخطّط هرمي، عملية احتيال محكوم عليها سلفًا بالانهيار.
هل يقف لبنان على مشارف الجوع؟
فعندما يصبح تدفّق رأس المال الجديد أقل من مبلغ الفائدة التي يتعيّن دفعها، يدمّر الهرم نفسه بنفسه. المشكلة هي أنه إلى جانب تقصير الحكومة، يحدث تدمير للنظام المصرفي في لبنان. علاوة على ذلك، فهناك تغيير في النموذج الاقتصادي، حيث أن لبنان بلد مصرفي منذ 20 عامًا، دولة هرمية مالية. فجأة، يضطر المصرفي أن يصبح فلّاحًا، لا يعرف طبيعة الأرض ولا قوانين الزراعة ويعجز عن إطعام نفسه.
إن ما يواجهه لبنان الآن ليس انخفاضًا كارثيًا في مستويات المعيشة فحسب، وإنما يواجه حقيقة أنه لن يكون قادرًا بعد الآن أبدًا، على ما يبدو من مؤشّرات، أن يعود إلى نفس المكان الذي احتلّه في السابق في التقسيم الدولي للعمل. يأتي ذلك على خلفية أزمة مالية اقتصادية عالمية، يتمّ خلالها بناء أهرام ديون عملاقة (بالدولار واليورو والين والجنيه الإسترليني)، لم يسبق لها مثيل في تاريخ العالم، وبكمّيات لا تصدّق، وانهيارها أيضًا ليس سوى مسألة وقت. من جانبها تحاول البنوك المركزية تأخير انهيار الاقتصاد العالمي دون جدوى، من خلال تخفيض سعر الفائدة إلى الصفر.
أي أن ما كان يفعله لبنان لم يعد يجلب الربح. بل إن الودائع في جميع أنحاء العالم، لم تعد تجلب الفائدة، ولا تجلب الاستثمارات سوى الخسائر، لأن السنوات القادمة هي سنوات الكساد وانخفاض الإنتاج. إن النظام المصرفي اللبناني، حتى من دون هرم الديون، سيكون محكومًا عليه بالانكماش إلى حجم خدمة الاقتصاد الوطني الصغير فحسب، في أفضل الأحوال. ولكن بالنظر إلى التخلّف عن سداد الديون والتضخّم المفرط المتوقّع، أخشى أن عددًا من المصارف اللبنانية لن تتمكّن من البقاء على قيد الحياة.
ومع ذلك، دعونا نعود إلى عمق سقوط مستوى معيشة اللبنانيين. نظرًا لانهيار النظام المصرفي، فإن تدفّق العملة الأجنبية من الخارج سينخفض بدرجةٍ كبيرة، ولن يكون قادرًا على تعويض عجز التجارة الخارجية بنفس الدرجة. لذلك، يمكننا فقط النظر إلى التجارة الخارجية لتحليل المشاكل المرتقبة.
في عام 2019 بلغت صادرات لبنان 3.7 مليار دولار، بينما بلغ حجم الاستيراد 19.2 مليار دولار. بلغ عجز التجارة الخارجية 15.5 مليار دولار، وهو أفضل مما كان عليه قبل عام (17 مليار دولار). الآن لن يتمكّن لبنان من دفع ثمن هذا الاستيراد، وفي حالة التخلّف عن السداد والتدهور في النظام المالي، سينخفض حجم الاستيراد نظريًا إلى حجم الصادرات. علاوة على ذلك، سوف تنخفض الصادرات اللبنانية، في ظلّ الظروف الراهنة للحجر الصحّي العالمي وانهيار الاقتصاد العالمي، وبالتالي فإن انخفاض الواردات ونقص السلع في لبنان سوف يكون أكبر.
لذلك، ولكي نتمكن من تصوّر حجم ونطاق هذه الأرقام، دعونا نأخذ بيانات عام 2018:
الواردات - 19.9 مليار دولار
استيراد النفط والبنزين والزيوت - 4 مليارات دولار
المركبات - 1.6 مليار دولار
استيراد الأدوية والمعدّات الطبّية - 1.33 مليار دولار
الأجهزة الكهربائية والإلكترونيات - 1.09 مليار دولار
الحبوب - 0.33 مليار دولار (ينتج لبنان 20% فقط من استهلاكه للحبوب)
حتى بعد خفض الاستهلاك على هذه المواد إلى الصفر، سيحتاج لبنان أيضًا إلى خفض احتياجاته من بنودٍ أخرى بنحو 8 مليار دولار.
هل تحوّل الأزمة لبنان إلى دولةٍ فاشلة؟
أي أن حجم انخفاض المتوقع للعملة الوطنية ضخم، والانخفاض الحتمي في الاستهلاك هائل.
في عام 2018، العام الذي كانت فيه إحصائيات موثوقة إلى حدٍّ كبير، بلغت نفقات ميزانية لبنان 16.4 مليار دولار، في الوقت الذي بلغت فيه الإيرادات حوالي 10 مليارات دولار، وبلغ العجز 6.5 مليار دولار.
ونظرًا لانخفاض قيمة الليرة اللبنانية، تواجه الحكومة خيارًا بين التخلّي عن التزاماتها تجاه الجمهور، ومحاولة إنقاذ المصارف اللبنانية، وبين بدء ضخّ حجم ضخم من الأموال غير المغطاة، وهو ما يهدّد بالتضخّم المفرط. كلا الخيارين كارثيان في نتائجهما الاجتماعية.
بشكلٍ عام، انتهت حياة لبنان الساحرة. ونظرًا لعدم وجود أنظمة توليد للطاقة مركزية في البلاد، أخشى أنه حتى الكهرباء يمكن أن تصبح ترفًا للكثيرين.
المحلّل السياسي/ألكسندر نازاروف
روسيا اليوم
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب