يسقطون هم ولا يسقط لبنان
الدكتور داود الصايغ
خلق البرلمان في لبنان ليحصر الضجيج. أقيمت جدرانه العالية لضبط الأصوات العالية. لأنه لم يخلق للتشريع فقط كون مهمّته كانت منذ البدء ولا تزال أوسع من إقرار القوانين. تعالوا إلى هنا وقولوا كلمتكم. تعالوا إلى هنا وتقاتلوا بالكلمة، مهما علت نبرتها ومهما قست. لا بأس. فهو المحراب الذي يفترض أن يتّسع للجميع.
ولكن الوقت هو الذي قسى بالنتيجة، فبات للناس في لبنان صوتان: صوت لهم وصوت عليهم. فانتفضوا على الصوت المضاد وعلا أكثر من أصوات الذين يفترض بهم أن يمثّلونهم. فهنالك إذن شيء خطأ، كما يقال في التعابير الدارجة. نعم، وإلّا كيف اندلعت الثورات وأسقطت العروش والكراسي في العالم. ولماذا كتب على الجدران القريبة من البرلمان في لبنان ذلك التعبير المذّل الذي لم يجد أحد من حاجة لمحوه وهو "كلّكم حرامية".
في جلسة الثقة تلك، التي لا سابق لها في تاريخ لبنان من حيث حجم واتّساع رفض الشارع لها تمّ تدمير ما كان يوصف باللعبة البرلمانية، وباللعبة السياسية التي جاءت بحكومة، كشفت وجوه من كانوا وراءها ظنًّا منهم أن الحكم هو سلسلة خدائع يخطّط لها الصغار صونًا لمصالحهم. حصل ذلك لبضع سنوات، ولكن الأمور انكشفت كلّها.
قبل اليوم، وقبل أن يعلن قاسم سليماني في تصريحٍ له بتاريخ 11 حزيران 2018، بأن لحزب الله في البرلمان اللبناني 74 نائبًا من أصل 128، كان البرلمان اللبناني قد تدرّج ليصبح أعلى منبر في الشرق. تلاقت أصداء أصوات الكبار فيه، بين الموروث والمستحدث، في ما ترك التراث اللبناني من تجارب القرن التاسع عشر وفي ما تركه التقليد الفرنسي عندنا من أنوار الفكر والقانون والثقافة. كانوا كبارًا أولئك الذين حفظوا الأمانة يتناقلونها من جيلٍ إلى جيل بالكلمة وحدها، بالقانون بالحوار وبالحرّية التي كانت ترسّخت منذ أجيال. وذلك المحراب اللبناني، أعطى الصورة المطلوبة عن لبنان الملتقى الذي كان العالم ولا يزال يبحث عنه، أي الصيغة التي ترشد الجميع إلى مستقبل العالم.
قبل أن يرفضه الشارع، ويرفض من هم بداخله ومن هم خارجه من أهل السلطة، الذين صار بينهم وبين الناس مسافة هي مسافة جميع الذين أخلوا بالأمانة. كان البرلمان اللبناني مختبر الضمائر يوم أفتى مشترعوه الدستوريون عام 1926 بأن "حرّية الضمير مطلقة". حدث ذلك قبل أكثر من عقدين من قيام إسرائيل، وسنوات قبل ضمّ الولايات العثمانية القديمة في المساحة السورية بعضها إلى بعض لتقوم الدولة السورية الحديثة عام 1934. وبالطبع حدث ذلك يوم كانت إيران لا تزال في عهود الملكية.
كان الشرق في سبات. فأيقظه لبنان. أيقظته الكلمات المنحدرة من الينابيع العالية، كأول تجربة برلمانية صحيحة تمّ لبننتها لتصبح الكلمة هي الأمانة الجامعة. وإلّا ما هو الميثاق الوطني الذي انطلق من المنبر إياه، في ذلك اليوم من خريف 1943، في البيان الاستقلالي. ما هو نظام الحكم في لبنان غير تلك الأصداء المتردّدة بين الجدران، يوم كان طلّاب الحقوق في ستينات القرن الماضي يحضرون الجلسات على مقاعد الضيوف، ليتعلّموا الأصول وليسمعوا المحاججات القانونية بين كبار البرلمانيين.
في تلك الحقبات المنيرة، كانت الكلمة قد عبرت الآفاق العربية والدولية. اِستلهم الرئيس الأميركي جون كنيدي من أقوال جبران خليل جبران، حين قال "لا تسألوا ماذا أعطاكم وطنكم، بل ماذا أعطيتموه أنتم". هذا كلام من عندنا، وعندنا منه الكثير. كما تلك السيّدة اللبنانية الأصل، التي اقتحمت موكب الرئيس دوايت أيزنهاور، سلف جون كنيدي ذات يوم من أواخر خمسينات القرن الماضي، لتقدّم له مرطبانًا من المربّى قائلة له: "من عندنا سيّدي الرئيس، من لبنان، تفضّل وذوق منه"، وابتسم الرئيس شاكرًا متقبّلًا الهدية. من عندنا الكلمة، ومن عندنا سخاء الفكر والأرض والتراب.
ويوم زار الملك الغربي، محمد الخامس، لبنان في مطلع ستينات القرن الماضي، كان ابنه مولاي عبدالله قد قطف وردة من حديقة رياض الصلح، لتصبح لمياء أميرة المغرب. ويوم زار الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة لبنان عام 1965، تمنّى أن تقدّم له فيروز بعض أغانيها في حفل العشاء التكريمي الذي أقيم له في فندق فينيسيا، فاعتذرت السيّدة لأن ما من كبيرٍ عندها يعلو على جمهور حفلاتها.
وحدث ذلك أيضًا قبل أقوال شارل ديغول والبابا يوحنّا بولس الثاني والرئيس جمال عبدالناصر والملك السعودي المؤسّس عبدالعزيز آل سعود والإمام موسى الصدر عن لبنان، ليس لبنان المرتجى، بل لبنان الواقع.
وحدث ذلك قبل أن يرتفع لبنان مع شارل مالك عام 1945، واضعًا شرعة حقوق الإنسان مع إليانور روزفلت، أرملة الرئيس فرانكلين روزفلت، والقانوني الفرنسي رينيه كاسان، حامل جائزة نوبل للسلام. يومذاك أخذ لبنان المكانة التي تعود إليه. أنه سيّدٌ مبرهنًا أن السيادة ليست وقفًا على الكيلومترات.
وإذا كان صحيحًا أن الأوطان لا تقاس بالضرورة بأوجه قادتها، ومنهم من شرّفها ومنهم من أحطّ بها، إلّا أن وجه لبنان غطّته الظلال في المرحلة الأخيرة، حين بدا على الصعيد الخارجي أن هنالك من يحاول وضع اليد عليه، إلى درجة أنه صار يحتلّ حيّزًا من تصريحات وخطب القادة الإيرانيين كتطلع إلى أن يعتبر من مساحاتهم.
ولكن ليس الخارج وحده هو الذي يحاول أن يلقي الظلال. فقط صعق اللبنانيون وهم يشاهدون على شاشاتهم مثل شاشات العالم كلّه كيف أن مسؤولاً لبنانيًا ممثّلًا لرئيس الجمهورية يتعرّض للمساءلة المباشرة على منبرِ واحد من أرقى مؤتمرات العالم؛ وكان خجلنا ممزوجًا يومذاك بالغضب. لأن وجه لبنان هو الذي جرح.
أصلحوا، أصلحوا، أصلحوا قال ممثّل الأمين العام للأمم المتّحدة في لبنان بصوتٍ واحد مع إيمانويل ماكرون ومايك بومبيو، الذين ضمّوا أصواتهم إلى صيحات الثائرين في الشوارع، وبخاصة عندما شاهدوا بأمّ العين كيف أسقطت بعض الأسماء على لائحة الحكومة في اللحظات المباشرة السابقة لطبع مراسيم التأليف، على معرفة من الجميع وبرضى منهم، وإلى درجة أن الصحافيين عندما كانوا يستمعون إلى أمين عام مجلس الوزراء يقرأ أسماء الوزراء وعرفوا باسم نائبة رئيس مجلس الوزراء حاولوا أن يستفسروا عن ذلك لأن معلوماتهم قبل ساعات كانت غير ذلك. مقابل أصلحوا، صمدت المحاصصة. ظنّوا إن إرسال المندوبين هو إصلاح. ظنّوا أن توالي المستشارين على كرسي مسؤولية الكهرباء يعيد النور. فكيف يحدث ذلك والقلوب مظلمة. مظلمة بعتمة الضمائر وبالمصالح الملتقية بين من يصادر القرار ومن ينفّذه مرتاحًا. إذ لا همّ بعد ذلك إذا كانت طرقات لبنان وعرة، لأن الأهمّ أن تبقى طرقاتهم هم مفتوحة.
في المآتم اللبنانية كان الحزانى يلطمون وجوههم. اليوم، في المأتم اللبناني الشامل يلطم الجميع ضمائرهم. كيف وصل من وصل. كيف. ما هي غفلة الزمان تلك التي أبعدت الواعين والمخلصين والأكفياء والذين حملوا لبنان بين أيديهم على مدى قرن حتى يظهر إلى الوجود كوطنٍ لا مثيل له، ولا بديل منه. كيف وصل الذين جعلوا الكرسي قضيتهم ولا شيء سوى ذلك، ولا همّ أنذاك مع من تحالفوا، مع من ارتبطوا وسلّموا القرار إلى مرجعية خارجية. فالمهمّ هو أنهم جالسون ومنقطعون تمام الانقطاع ليس فقط عمّا يجري، بل عما يجب أن يجري. ولكن ليس لبنان هو الذي يسقط معهم حتى وإن كانوا سقطوا هم في الامتحانات كلّها.
الدكتور داود الصايغ/النهار
الثلاثاء 18 شباط 2020