الفلسطينيون والحراك الشعبي اللبناني
ألبير نجيم*
حسنًا فعل الإخوة الفلسطينيون في لبنان بعدم مشاركتهم إلّا لمامًا في الحراك الشعبي اللبناني الأخير، وذلك لما فيه مصلحتهم ومصلحة علاقتهم بالسلطة اللبنانية من جهة، ومصلحة الحراك نفسه من جهة أخرى، خاصة وأن "الثورة" لم تسلم من الاستهداف السياسي المعاكس ولم يكن ينقصها مادة إضافية تزيد من هذا الاستهداف، فضلًا عنأانها هي نفسها ومن داخلها أو جوانبها وروافدها كانت عرضة لثغرات أو عورات لا بدّ من الإشارة إليها والإقرار بها، وفي كلّ الأحوال ليس هناك من ثورات "فاضلة" أو منزّهة وللبحث في هذا الإطار صلة...
بالأمس القريب كان للفلسطينيين حراك أو ردّة فعل غاضبة على قرارٍ اتّخذه وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال الحالية وأثار جدلًا واسعًا في مختلف الأوساط التي انقسمت بين مؤيّدٍ ومدافع، وبين معارض ومندّد، وبصرف النظر عن حيثيات هذا القرار وحيثياته المتشعّبة موضوعيًا وسياسيًا، فإن المشهد الفلسطيني المشحون والثائر حيال هذا القرار، عفويًا أم على خلفيات معيّنة، أعاد إلى أذهان اللبنانيين صورًا مقلقة لم ينسها جيل الحرب اللبنانية ولا يستسيغ الجيل اللاحق رؤيتها بفعل ما يسمعه ممن سبقوه. وتحت هذا العنوان أو غيره من العناوين المماثلة تأتي الإشارة إلى ما تقدّم أعلاه.
وبالأمس القريب السابق أيضًا تحرّكت شرائح الشعب الفلسطيني في لبنان احتجاجًا على توقيف خدمات "الأونروا"، وإذا كان اللبنانيون عامة، على المستويين السياسي والشعبي مع مضمون المنحى المطلبي والاحتجاجي هذا وعلى قاعدة أن هذه الخدمات ساهمت على مدى سنوات طويلة في الحدّ من البؤس والمأساة الفلسطينية ووفّرت ليس فقط على الفلسطينيين بل أيضًا على اللبنانيين بعضًا من المعاناة جراء القضية الفلسطينية وانعكاساتها، فإن المشهد الفلسطيني الغاضب على مساحة انتشار المخيّمات في المناطق المختلفة أشاع جوًّا مقلقًا مما يمكن أن يكون الوضع عليه إذا ما تفشّى الغضب الفلسطيني وخاصة إذا ما فقدت الضوابط والكوابح. ومن حسن الحظ أن المعالجات أوجدت بدائل مقبولة منها بشكلٍ رئيسي المساعدات المنتظمة من دول غربية وعربية وفق منهجية مختلفة.
اِستطرادًا وعلى أرض الواقع، وبالعودة إلى البداية، كيف توزّعت خريطة التموضع الفلسطيني بشكلٍ عام خلال "الثورة"؟
إن نظرةً أفقية إلى الواقع الفلسطيني في لبنان تظهر أن الفلسطينيين ينقسمون سياسيًا وتنظيميًا إلى ثلاثة أقسام وإذا صحّ التعبير إلى ثلاث سياسات متباينة:
- منظّمة التحرير الفلسطينية والسفارة الفلسطينية في بيروت المنضبطتين على وقع سياسة رام الله والتي تشدّد، على الأقل في العلن، على منع التدخّل بالشأن اللبناني ومحاسبة أي فرد أو عضو مخالف تحت طائلة الفصل.
- الفصائل التي كانت ولا تزال تتأثّر بموقف وتوجيهات القيادة السورية والتي تنتهج سياسة محدّدة في هذا الاتّجاه إزاء القضايا اللبنانية والعربية كافة.
- حركة حماس ومعها بعض الإسلاميين، وهي لا تخرج في سياستها المعلنة عن الخط العام القاضي بعدم التدخّل، لكنها بالواقع تعمل وفق أجندة متقلّبة أحيانًا ومنسجمة مع تحالفاتها المباشرة في لبنان أحيانًا أخرى.
ولعل فضيلة إحجام أي جهة لبنانية عن طلب أي مساهمة أو مساعدة فلسطينية في المرحلة الأخيرة الماضية، دفعت بمشهد المخيّمات الفلسطينية إلى الخلف حيال الحراك اللبناني، مع بعض الاستثناءات الميدانية كتلك التي سجّلت في مخيّم البداوي وبعض مناطق الشمال، ليس على خلفية مطلبية بقدر ما هو على خلفية مجاراة حالة شعبية معيّنة رافقت استقالة الحكومة وعملية الاستشارات والتكليف.
ولا بدّ من المسارعة في كلّ الأحوال إلى التنويه بأن خطّة الضبط الأمني المرتفعة المستوى والواعية للمخاطر من كلّ الاتّجاهات، من قبل الأجهزة العسكرية والأمنية اللبنانية، كانت وتبقى دائمًا عاملًا أساسيًا ومساعدًا في الانكفاء الفلسطيني المطلوب عن قضايا الداخل.
قلّة من الفلسطينيين التابعين لمنظّمات أهلية أطلقت أصوات خافتة في ظلّ الحراك اللبناني، من دون أن تترك أثرًا في الأذن اللبنانية. وربما كان أكثر ما استرعى الانتباه في سياقٍ متّصل ظهور عدد من السيدات اللبنانيات المتزوجات من فلسطينيين، من ضمن حملة المطالبة بمنح الجنسية اللبنانية لكلّ من يولد من أمٍ لبنانية.
أيعني انكفاء ظاهرة النشاط الفلسطيني المرتبط بالحالة اللبنانية، وتبعًا لذلك بالحراك الشعبي اللبناني، أنه لم يكن في أي مرحلة من سلّة مطلبية للفلسطينيين؟
يحملنا هذا التساؤل على العودة إلى مطلع التسعينيات حيث كانت السلطة اللبنانية المنبعثة إثر سنوات الحرب الطويلة وإثر اتّفاق الطائف منهمكة في لململمة ذيول الحرب سياسيًا، ماليًا، اقتصاديًا، واجتماعيًا، وحيث أطلّت منظّمة التحرير الفلسطينية بمذكّرة مطلبية تزامنًا مع تشكيل لجنة وزارية خاصة بالشأن الفلسطيني، وبرز في حينه كمعدٍّ لهذه المذكّرة ومدافع عنها ودافع باتّجاهها، مسؤول الجبهة الشعبية-لتحرير فلسطين صلاح صلاح، أما أهمّ ما تضمّنته المذكّرة فقد اندرج تحت العناوين الرئيسة التالية:
- ضرورة توفير الحقوق السياسية والاجتماعية والمدنية للفلسطينيين في لبنان تطبيقًا لقرارات جامعة الدول العربية التي أكّدت على هذه الحقوق في مختلف دول اللجوء مع تأكيدها أيضًا على منع التوطين.
- منح كلّ فئات الفلسطينيين المقيمين في لبنان نفس الحقوق المعطاة لفئة اللاجئين عام 1948.
- اِعتماد سجلّات مديرية شؤون اللاجئين فقط كمرجعٍ نهائي وعدم تطبيق شرط الحصول على بطاقة الأونروا لإعطاء الفلسطينيين المقيمين في لبنان وثائق سفر.
- تقديم التسهيلات للفلسطينيين في مجال العمل ومساواتهم في كلّ شيء بالعمّال اللبنانيين.
- فتح أبواب المؤسّسات التربوية اللبنانية أمام الطلبة الفلسطينيين أسوة باللبنانيين.
- الإجازة للفلسطينيين بالانتماء إلى النقابات والاتّحادات اللبنانية.
- إعادة إعمار المخيّمات ومساهمة الحكومة اللبنانية في الإعمار.
- التشديد على الحرّيات الديمقراطية تحت ثلاثة مطالب رئيسية هي: حرّية التعبير (نشاط فكري، ثقافي، وإعلامي)، الممارسة السياسية (عمل سياسي ونضالي من خلال الأحزاب اللبنانية والفلسطينية)، عدم شطب أسماء الفلسطينيين الذين يهاجرون إلى الخارج من سجلّات مديرية شؤون اللاجئين.
- تشريع حقّ الفلسطيني في التملّك.
كلّفت المديرية العامة للأمن العام في ذلك الوقت بوضع ملاحظات تفصيلية على هذه المذكّرة، وكلّفت أنا شخصيًا من قبل الرؤساء المباشرين (كحقوقي)، وكنت يافعًا في السلك في تلك المرحلة، بإعداد ما يلزم، وهذا ما نشره لاحقًا في مذكّراته أحد كبار الضباط المعني بشكلٍ أساسي بالموضوع. وقد ركّزنا في الردّ على التالي من النقاط التي نوردها باختصار كلّي:
- تعداد ما قامت به الدولة اللبنانية في إطار الحقوق الاجتماعية والمدنية للاجئين الفلسطينيين منذ العام 1959 وحتى العام 1992، مع الإشارة إلى أنه لم يكن الفلسطيني المقيم في أي بلدٍ عربي آخر بوضع أفضل مما هو عليه في لبنان الذي يتحمّل قياسًا مع قدراته ومساحته العبء الأكبر من أعباء اللجوء، والإشارة بالتالي إلى أنه كان من الممكن تطوير مجالات الاهتمام بهؤلاء اللاجئين لولا جملة اعتبارات منها تمادي التنظيمات الفلسطينية في التدخّل بالشؤون اللبنانية ما كاد يقضي على الدولة بالكامل.
- التأكيد على أن الفئة المطالب باعتبارها كفئة اللاجئين عام 1948 ليست بقليلة العدد خلافًا لما تزعمه المذكرة، وأن عددها بحسب التقديرات يتجاوز المئة ألف فلسطيني.
- التشديد على أن بطاقة الأونروا هي المستند الأكثر دقّة لإثبات هوّية الفلسطيني الذي يتقدّم بطلب وثيقة سفر.
- لفت النظر إلى أن الأكثرية الساحقة من الفلسطينيين تعمل بحرّية في لبنان من دون أي تشدّد أو رقابة من قبل الدولة اللبنانية باستثناء المهن التي يحكمها نظام النقابات كالطبّ والهندسة والمحاماة...
- الإشارة إلى أن الانتماء إلى نقابات أو اتّحادات قد يتحوّل لاحقًا إلى نواة لتحرّكات سياسية تحت ستار العمل النقابي، سيّما وأنه من ضمن أهداف العمل النقابي الضغط على الدولة بوسائل عدّة منها الإضرابات، التظاهرات، الاعتصامات، المؤتمرات، وغيرها.
- اِستغراب مطالبة الحكومة اللبنانية بالمساهمة في إعادة إعمار المخيّمات في الوقت التي تسعى جاهدة للحصول على مساعدات تمكّنها من إعادة إعمار المناطق اللبنانية المدمّرة ومعالجة قضية المهجّرين اللبنانيين.
- اِستحالة استثناء الفلسطينيين من الشروط التي وضعها القانون اللبناني لتملّك الأجانب، خاصة وأنهم يشكّلون النسبة الأكبر من الأجانب المقيمين في لبنان.
ربما أن القيادة الفلسطينية أدركت في حينه بعد نقاش طويل أن ما تطالب به الدولة اللبنانية غير قابل للتطبيق لاعتبارات جمة، منها ما هو متعلّق بقدرات هذه الدولة الناهضة من تحت الركام جراء حرب أقحمت التنظيمات الفلسطينية بدورها نفسها بها من دون وجه نفع للقضية المركزية، وكان لها لاحقًا جرأة الاعتراف بالخطأ، ومنها أيضًا عدم جواز المقارنة بما هو معمول به في سوريا حيث أملت ظروف وسياسات معيّنة على الدولة السورية إصدار قانون يقضي بمساواة الفلسطينيين المقيمين في سوريا بالسوريين أصلًا، الأمر الذي يختلف عن الاعتبارات اللبنانية وأبرزها العدد الكبير للفلسطينيين المقيمين في لبنان قياسًا مع عدد اللبنانيين.
هذا من ناحية الأمس، أما من ناحية اليوم، فإذا كان صحيحًا وواقعًا إننا والفلسطينيين المقيمين في لبنان في مركب واحد هو مركب الدولة اللبنانية المعرّضة للانهيار، فإن الأصحّ هو وجوب عزل الواقع الفلسطيني من كافة النواحي السياسية، الأمنية، الاجتماعية، وغيرها، عن الحالة اللبنانية المتردية والخطيرة، وهذا ما يبدو أن القيادات الفلسطينية على اختلافها مدركة له سواء عن قناعة تامة أم بفعل ولاءات إقليمية ومحلّية معيّنة، والأهمّ بفعل إجراءات الدولة نفسها.
يقلق المعنيون كثيرًا أن الأزمة الداخلية الراهنة والمرشّحة للأسف للتمادي على ما يبدو، هي على تماس دقيق مع واقعي اللجوء الفلسطيني المزمن والنزوح السوري إلى الأراضي اللبنانية، ما يفترض العمل الواعي في كلّ الاتجاهات ومن قبل كلّ القوى على استمرار عزل هذين الواقعين عن الحالة الداخلية بصرف النظر عن موقف السلطة من الحراك الشعبي أو موقف هذا الحراك من السلطة، كما بصرف النظر عن مواقف الأحزاب والأفرقاء السياسيين المتضاربة في هذا الإطار.
ألبير نجيم
صوت لبنان/ https://www.vdlnews.com/
* عميد متقاعد في الأمن العام اللبناني، باحث، حقوقي، ومحلّل سياسي-أمني.