عالَمٌ في خضمّ التحدّي
د. رفيف رضا صيداوي*
لعلّ ميزة كِتاب وزير الخارجيّة الفرنسيّ الأسبق هوبير فيدرين Hubert Védrine الصادر في العام 2016 بعنوان "Le monde au défi"، هي أنّه ينطوي على نظرة جديدة، لا بل ربّما مُختلفة إلى التحدّيات التي يواجهها العالَم. صحيح أنّ أبرز أطروحة في الكِتاب تدور حول إمكانيّة الانتقال من "الجغراسيا" إلى "الجغكولوجيا" لئلّا يضيع كوكب الأرض منّا وتضيع الكائنات الحيّة منه، وتحديدًا البشر، إلّا أنّ الصحيح أيضًا أنّ أطروحة الكِتاب هذه لا تزال غير محمولة على محمل الجدّ.
هوبير فيدرين، الذي كان قد أشار أكثر من مرّة إلى عدم قدرة الغرب على قيادة العالَم، وإلى تمرُّد الطبقات الشعبيّة التي لم تعُد تؤمن بوعود العَولمة وتباشيرها، وابتعاد الطبقات الوسطى الغربيّة عنها أيضًا (راجع مقابلة معه في صحيفة "لوموند" الفرنسيّة في 15 كانون الثاني/ يناير 2017)، ناهيك بضرورة إصلاح منظّمة الأُمم المتّحدة لكي تغدو أكثر قدرة على حلّ النزاعات، وبضرورة مُواجَهة الفقر والتسلّح النووي وانتشار أسلحة الدمار الشامل... وغيرها الكثير من مشكلات عالَمنا المتأزِّم، يَطرح في كِتابه بعض الحلول من أجل عالَمٍ أفضل. فينطلق من عددٍ من المُسلّمات، لعلّ اوّلها ضرورة تغيير الغربيّين نظرتهم إلى أنفسهم وإلى العالَم، بمعنى ضرورة طيّ صفحة الماضي الذي كان الغربيّون فيه يحكمون العالَم؛ وثاني هذه المُسلّمات هو ضرورة الرضوخ للتحدّي العالَمي المتمثِّل بكون حُكم العالَم لن يسعه منذ الآن أن يكون بأيدي قوّة واحدة أو نِتاج جهة واحدة؛ أمّا ثالث هذه المُسلّمات فهو ضرورة أن يتعامل الغرب مع القوى الناشئة التي لن يكون بوسع أحد، بدءًا من الآن، تجاهُل تقدّمها؛ وأمّا رابعها فهو زيف الكلام على "حكومة عالَميّة"، نظرًا لتشكيكه بالذين سيقومون بتعيينها وتشكيكه كذلك بأعضائها وبالجهة التي ستضطّلع بالدور الرقابي عليها...
نحو منظومة فكريّة جديدة
فالقيَم "العالَمية" برأيه، لطالما كانت اختزاليّة، وغربيّة الطابع، بحيث لم تَحترم الخصوصيّات وحالت دون تلاقي الأفكار، ولاسيّما أنّها ترافقت مع إرادة استعماريّة تدّعي المساعدة على "التقدّم الحضاري". أمّا الاقتصاد المُعولَم، فلم يخلق برأي فيدرين توافقًا راسخًا، لا بل نراه الآن يكبح التقارُب بين الشعوب، بحيث لم يفضِ الاعتماد المُتبادَل القائم بين الدول في ظلّ اقتصاد سوقٍ مفتوح وبلا ضوابط إلى تقاربِ المجموعات الجيوسياسيّة الكبرى، مثل روسيا والصين والعالَم العربي وأفريقيا وغيرها، مع الغرب. في حين أنّ تكاثر المُبادلات الاقتصاديّة لم تُواكبه عَولمةٌ ثقافيّة، بل ظلّت المجالات الثقافيّة تقريبًا مُغلقة في وجه العَولمة الماليّة. والأمر نفسه ينسحب على مؤسّسات مثل "مجموعة الثمانية" و"مجموعة العشرين" و"الأُمم المتّحدة" وغيرها من المؤسّسات الدوليّة التي ليست سوى مؤسّسات مُحتمَلة لا يُمكنها العمل من دون توافقٍ وإجماعٍ حقيقي. والنتيجة هي أنّ " المجموعة الدوليّة التي يلتقي فيها البشر كلّهم من أجل أن يشكّلوا ذات يوم إنسانيّة واحدة وشاسعة مُتضامنة ليست حتّى الآن واقعًا معيوشًا أو مُتحقِّقًا".
أمّا المبدأ الأساس الذي يُمكن أن يقوم عليه هذا التوافُق الحقيقي بعد سقوط الاستراتيجيّات السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، فيكمن، بحسب هوبير فيدرين، في التحدّي الأيكولوجي، حيث "يبدو أنّ الرابط الوحيد بين البشر جميعهم هو أن تبقى الأرض قابلة للحياة والنموّ"؛ إذ "يستحيل إنكار أنّ الحياة على الأرض يُمكنها أن تغدو شبه مستحيلة ذات يوم، وإن كان هذا الكلام غير مقبول بعد من الجميع، ولأسبابٍ عدّة".
السُبل الجديدة للحُكم العالَمي التي يهجس بها هوبير فيدرين تستند إذن إلى البُعد الأيكولوجي؛ أي الانتقال من الجغرافيا السياسية إلى الجغرافيا الأيكولوجيّة. لكنّ ما يرنو إليه مرفوض برأيه لأسبابٍ إيديولوجيّة، أبرزها الإيمان بالتقدّم، وأخرى عمليّة، تتعلّق بمسألة النموّ، وثالثة وقائيّة، أبرزها مسألة العمالة. من ذلك مثلًا أنّ القضيّة "الأيكولوجيّة" بالنسبة إلى غالبيّة النّخب الغربيّة، المفتونة منذ القرن الثامن عشر بمسألة "التقدّم"، غير مطروحة بعد؛ إذ لطالما كانت هذا القضيّة بالنسبة إليهم "هامشيّة" و"فولكلوريّة"، وكان الدفاع عن الطبيعة مسألة "يوتوبيا" ليس إلّا، حتّى أنّ البعض ليس مُقتنعًا للآن بَعد بالآثار السلبيّة لتراكُم التلوّث، بأنواعه، وللمواد الكيميائيّة على صحّة الإنسان، وليس مُقتنعًا كذلك بالعلاقة بين البيئة والصحّة، وحجّة هذا البعض في ذلك هي أنّ معدّلات أمل الحياة لم تتطوّر على النحو الذي تطوَّرت فيه خلال القرنَين الماضيَين، لذا غالبًا ما تتردّد مقولة: "الأيكولوجيّون يريدون إعادتنا إلى العصر الحجري!"، في الوقت الذي ترفض فيه مجموعات سكّانيّة أوروبيّة تغيير عاداتها المضرّة بالبيئة. وينسحب الأمر عينه على مسألة النموّ، حيث أُهملت تحذيرات نادي روما في بداية سبعينيّات القرن الفائت حول "حدود النموّ"، والثغرة القائمة بين السكّان وحاجاتهم المُتزايدة من جهة، والمَوارِد والمساحات المحدودة من جهة أخرى، وذلك بحجّة السمة المالتوسيّة (نسبةً إلى مالتوس) لفرضيّة نادي روما؛ فيما أفضى هاجس النموّ والإنماء إلى تأخير الجهد الأيكولوجي لوقتٍ ما، وقد تبدّى هذا الهاجس لدى القادة الأوتوقراط، ذلك أنّ حجّة "النموّ والإنماء"، ووعودهم بتحقيقه، كانت ضمانتهم لديمومة سلطتهم.
نحو إدارة خضراء للعالَم
الحلّ كما تبدّى لدى هوبير فيدرين لن يكون "سحريًّا، بل ينبغي العمل عليه عبر مراحل، لأنّه ليس مُفاجِئًا أن تُدافع كلّ مجموعة بشريّة باستبسال عن عاداتها ومَصالحها المباشرة التي تتناسب مع السنوات التي عليها أن تحياها على الأرض. ومن المحتمل أن يغدو عشرات الملايين من الأشخاص، على الأقلّ، لا بل المئات، مُهددَّدين في أنشطتهم، وإذًا في عائداتهم ووجودهم، في حال تمّ وضع نهايات فجائيّة لمُمارساتهم الحديثة المُعادية للبيئة"، فالحلّ إذا لن ولا يجب أن يكون مفاجئًا وفظًّا، لأنّ التكنولوجيّات اللّازمة ليست حاضرة بعد، كما الإنسان؛ إذ يصعب زرع ثقافة عِلميّة في وقت قصير، فيما الأنظمة السياسيّة وأواليّاتها هي على ما هي عليه. "فالذهنيّات تُقاوِم". والانتقال الأيكولوجي "لن يقتصر على التكنولوجيّات والنظام الضريبي أو القوانين، بل سيكون ثمرة ثورة ذهنيّات وقيَم، إلى حين يصبح المجموع الكلّي قادرًا على الاشتغال بنفسه من دون إملاءات. وهذا يسَتغرق وقتًا".
غير أنّ تصويب العالَم، بجعْله أكثر احترامًا للنُّظم البيئيّة (أي "أيْكَلَجَته"L'ecogolisation du monde) لن يتمّ، بحسب المؤلِّف، بالإيقاع نفسه في القطاعات المُختلفة. و"أيْكَلَجَة" الصناعة ستكون جزءًا من هذه العمليّة: الحدّ من النفايات، من الضجيج، من الطاقة، ضبط ثاني أوكسيد الكاربون...إلخ. وفي هذا السياق سيكون قطاع بناء المَساكن واعِدًا، بما أنّ أوروبا باتت قادرة على إنجاز مبانٍ ذات طاقة إيجابيّة. ومن خلال تعميم الإنجازات الخاصّة بهذه التجارب الأولى، سيتوافر العمل للمؤسّسات والشركات المُدرَّبة على هذه المَعارِف الجديدة ومُستلزماتها على مدى عقود في العالَم بأسره. كما تستلزم عمليّة التحوّل هذه المزيد من التكنولوجيا والابتكار والعلوم بشكلٍ يفوق "القيَم" والمُعتقدات.
هوبير فيدرين مؤمن إذًا بأنّ إدارة عالَميّة ومسؤولة للمَخاطر والتحدّيات البيئيّة من شأنها أن تشكِّل الأساس الضروري لبناء مُجتمع دوليّ في خدمة كوكب أخضر، وذلك على الرّغم من أنّ القضيّة أو المسألة الأيكولوجيّة لا تحظى بالتمثيل الكافي عالَميًّا، ولا تزال ارتباطاتها بحركات نقابيّة أو راديكاليّة هامشيّة. لكنّه في المقابل لا ينفي أن تُحمَل أطروحاته تلك على أنّها يوتيوبيا، ويبدو شبه موقِن بأنّ ما جاء به هو بمثابة واقع سيفرض نفسه على البشريّة جمعاء. فبرأيه، أنّه الأحرى بنا الخضوع لهذا الواقع بدل العودة إلى الوراء والرضوخ لفوضى الجدالات العقيمة والذعر. ففي القرن العشرين، قُتل جزء كبير من البشريّة باسم يوتوبيّات أيديولوجيّة قاتلة. لكنْ في القرن الحادي والعشرين يُمكن للعالَم أن يكتشف وحدته الأساسيّة وتضامنه في اليوتوبيا الجديدة، بما في ذلك البلدان والمناطق والشعوب المنكوبة اليوم بالحروب والفقر المُدقع والأزمة الاقتصاديّة، والتي تعيش أقصى تراجُع لها بسبب التطرُّف الديني، في حين تشكِّل الأيكولوجيا بالنسبة إليها آخر همومها.
د. رفيف رضا صيداوي/مؤسّسة الفكر العربي-أفق
السبت 21 كانون الأول 2019