وقف إطلاق النار الأول في سوريا... لماذا التقت المصالح حوله؟
د. فادي الأحمر
حرب التقارير هذه كانت متوقّعة. وخروقات قرار وقف إطلاق النار ايضاً. اذ ليس من السهل التقيّد به تماماً بعد خمسة أعوام من الصراع العنيف. وما يزيد من تعقيد تطبيق القرار هو عدم الاتفاق على خارطة توزّع القوى العسكرية في سوريا بين الأميركيين والروس. والخلاف بشكل أساسي هو حول أماكن تواجد "داعش" و"النصرة". ما يسمح لروسيا والنظام وحلفائهما الاستمرار في القصف وربما شنّ الهجمات على مواقع للمعارضة بحجّة وجود "داعش" او "النصرة". على رغم ذلك، وعلى رغم تشكيك كافة الأطراف بالتزام وقف النار، بمن فيهم "راعيا القرار"، يبدو ان القرار الأممي سيصمد لفترة. والسبب حاجة الأطراف إليه. لماذا؟
بالنسبة الى الأميركيين الهدف من وقف النار وقف تقدّم روسيا وحلفائها في الشمال السوري الذي كاد، لو استمر، ان ينهي المعارضة السورية "المعتدلة" كلياً ويغيّر موازين القوى بشكل كبير. وهذا ما لا تريده واشنطن التي حرصت منذ بدء الأزمة السورية على خلق توازن قوى بين المعارضة والنظام، مع أرجحية لهذا الاخير. وهي لم تسعَ فعلياً الى إسقاطه على رغم تصريحات المسؤولين الأميركيين المتكرّرة بهذا الشأن. والأمثلة على ذلك كثيرة. أبرزها عدم إعطاء الضوء الأخضر لحلفائها بتقديم تسليح نوعي للمعارضة يمكّنها من حسم المعركة، وذلك منذ العام 2012، وإحجامها عن توجيه ضربة عسكرية ضد النظام في ايلول 2013 بعد استعماله السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية، وقيامها بضغط مباشر على أنقرة بعد سنة ونصف لإيقاف اندفاعة المعارضة الى ابعد من جسر الشغور نحو مدينة اللاذقية، عرين النظام. الهدف الثاني لواشنطن هو استيعاب غضب حليفتيها الرياض وأنقرة بسبب تقهقر المعارضة في الأسابيع الأخيرة تحت وابل صواريخ الطائرات الروسية وهجمات وحدات النظام والحرس الثوري و"حزب الله"، واستيعاب تهديدهما بالتدخّل البرّي.
روسيا، أيضاً تريد استيعاب غضب المملكة العربية السعودية. هي تدعم النظام وتنسّق ميدانيا مع إيران و"حزب الله"، ولكن ليس من مصلحتها معاداة المملكة التي تقود حالياً العالم العربي، خصوصًا ان لها مصالح اقتصادية وسياسية معها تطوّرت بشكل ملحوظ خلال الأعوام الأخيرة. اقتصادياً، يحتل النفط موقعاً أساسياً في العلاقات بين البلدين. من مصلحة روسيا التفاوض مع المملكة، صاحبة التأثير الكبير على انخفاض سعره كونها المنتج الأوّل عالمياً، لإعادة رفع سعر البرميل الذي تدهور بشكل كبير خلال الأشهر الأخيرة وكان له تأثير كبير على الاقتصاد الروسي الذي يعاني من العقوبات الغربية ضده. كما تموّل الرياض الصفقات المصرية لشراء الاسلحة من موسكو والتي بلغت قيمتها في العام 2015 حوالى الـ 3 مليارات دولار. هذا وعقدت وزراة الدفاع السعودية صفقة لشراء حوالى 950 ناقلة جند روسية من طراز BMP-3. وستزيد المملكة نسبة استثماراتها في روسيا الى 10 مليارات دولار. اما المفاوضات المتعلّقة ببناء 16 مفاعلاً نووياً في السعودية، يكون لروسيا دور كبير، فتتقدّم بخطى حثيثة بين البلدين. من جهة أخرى، تدرك موسكو جيداً انه لا يمكن استبعاد الرياض او تجاهلها في الصراع السوري. فهي تدعم وحدات المعارضة على اختلافها ولها تأثيرها على التنظيمات الاسلامية المصنّفة ارهابية. وليس من مصلحتها ربح سوريا وخسارة المملكة ومعها العالم العربي!
المملكة العربية السعودية ايضاً تريد وقف النار في هذه المرحلة من الصراع على سوريا. فهي تريد ايقاف الاندفاعة الكبيرة للنظام وحلفائه في ريف حلب ومحافظة ادلب واعادة تقييم وضع المعارضة العسكري ولملمة صفوفها بعد الضربات الموجعة التي تلقتها خلال الاسابيع الاخيرة. هذا التقدّم العسكري، لو استمر على ذات الوتيرة، كان سيشكل خطرًا على المعارضة ويخرجها من الصراع. او في احسن الاحوال يُطبق عليها الحصار في مدينة حلب. في هذه الحال كان على السعودية (وتركيا معها) التنازل أكثر فأكثر لإنقاذ الوحدات المحاصرة وعدم خسارة المدينة التي كانت تعمل المملكة وحلفاؤها لتكون مركز حكومة المعارضة السورية او ائتلافها الوطني. ونقطة انطلاق المعارضة من داخل الأراضي السورية، خصوصًا ان "الشهباء" لها رمزيتها السياسية والاقتصادية والتاريخية... لقد ادركت المملكة ان المعارك التي دارت خلال وجود الوفود المفاوضة في جنيف كانت ردّاً روسيا عسكرياً على توحيد المعارضة سياسياً في الرياض، ورسالة واضحة على انها، من الآن وصاعداً، هي صاحبة التأثير الأكبر في الملف السوري. أمام هذا الواقع المأزوم قبلت الرياض بوقف النار لكسب الوقت وللحصول من واشنطن على ضوء أخضر بدعم عسكري اكبر للمعارضة كون التدخّل البري متعذّر في هذه المرحلة خصوصًا في ظل رفض مصر المشاركة فيه. وربما تنتظر الرياض اجتماع القمّة العربية، المقرّر عقده في نيسان المقبل في المغرب، للحصول على دعم عربي في إطار جامعة الدول العربية لتدخّل عسكري برّي تشارك فيه دول عربية أخرى.
تركيا من جهتها هالتها التطوّرات الميدانية الاخيرة على حدودها الجنوبية! أيّدت وقف النار ودعمته لإيقاف تدهور المعارضة المسلّحة، التي تدعمها، خصوصًا أن الأكراد في منطقة عفرين حاولوا الاستفادة منه للتوسع شرقاً باتجاه اعزاز. هذا يعني خطوة الى الأمام للاتصال بـ"الكيان الكردي" شرق الفرات. ما يشكّل تهديداً مباشراً للأمن القومي التركي. فتركيا تنظر بريبة كبيرة الى سيطرة الأكراد على المنطقة الممتدة من القامشلي شرقاً حتى عين العرب (كوباني) بدعم من حلفائهم الأميركيين! هذه السيطرة اذا ما تحوّلت الى كيان سياسي كردي، يمكن ان تشكّل خطراً استراتيجياً على وحدة الاراضي التركية. وما يعزّز المخاوف التركية تأييد غالبية الاكراد السوريين لحزب العمال الكردستاني صاحب مشروع الدولة الكردية المستقلّة والذي حارب انقرة من أجل قيامها في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. وقف النار في سوريا في هذه المرحلة يعطي الفرصة لانقرة لاستيعاب التحوّلات الكبيرة الطارئة في الصراع ووضع خطة لمواجهته.
ولكن ماذا عن الاطراف المتصارعة على الأرض؟ في ظل تحوّل الحرب السورية الى صراع قوى كبرى اقليمية ودولية أصبحت الأطراف الداخلية منذ زمن بعيد، بمن فيها النظام، أدوات منفذّة. وقف النار اليوم يعطيها قسطاً من الراحة بعد فترة صراع عسكري طويل دام خمسة أعوام. على ان تستأنف نشاطها الحربي بعد سقوط وقف اطلاق النار الاول في سوريا.
د. فادي الأحمر
المسيرة، العدد 1549