طمر الرؤوس في النفايات
الوزير فادي عبّود
نشرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية مقالًا عن لبنان بعنوان: «ظلٌ يخيّم على لبنان، وليس الاقتصاد، السياسة أو الحرب» ويركّز المقال على الجانب البيئي حيث لا تزال هناك أكوام من القمامة والشواطئ الملوثة وإهمال المعايير البيئية الدولية، مما يدلّ إلى كارثةٍ بيئية في لبنان.
إنّ المقال في توقيته ومحتواه يدلّ إلى محاولة واضحة لتشويه صورة لبنان ونحن في خضم الموسم السياحي، وخاصة انّه تضمّن مغالطات منها، أنّ دولة الأردن اوقفت استيراد الفاكهة من لبنان خوفًا من التلوث البيئي وامتصاص الفاكهة للرواسب. وهذه مغالطة واضحة، حيث أنه يجري فحص الفاكهة في لبنان وفي البلدان التي تستورد الفاكهة منه.
اللافت أنّ الاسرائيلي يحاول أن ينطلق من الملف البيئي ليروّج لكارثة جديدة سيواجهها لبنان على الصعيد البيئي، من أزمة النفايات، وترويجه انّ الشواطئ اللبنانية غير صالحة لاستقبال السياح.
هذا المقال دليل واضح على أنّ الصراع ليس عسكريًا فحسب، بل يمتد ليشمل كلّ الأدوات الاقتصادية والترويج والدعاية، وتشويه الصورة السياحية والاقتصادية للبنان، وبالتالي علينا التساؤل: لماذا وصلت الحالة البيئية إلى هذا الدرك والفشل المرعب في قضية إدارة النفايات؟
تابعت موضوع النفايات في لبنان منذ كنت رئيسًا لجمعية الصناعيين، لأنّ الموضوع صناعي بامتياز، ولن يُعالَج على النحو الصحيح إذا لم يُنظر إليه من منظار صناعي بحت، خصوصًا أن موضوع التدوير يجب أن يُنظَر إليه كصناعة ناشئة تتناسب والأفضلية التنافسية والتفاضلية في لبنان، وقد تكون واعدة كصناعة تصديرية للمنطقة والعالم! في لبنان تحوّل هذا الموضوع إلى مادة للمزايدات السياسية. نرفض بنتيجتها النظر إلى تجارب الدول الأخرى للوصول إلى حل فعّال بكلفة وأضرار بيئية أقل.
ما زلنا نصّر على حجب أعيننا عن أي تطور أو حلول فاعلة اعتمدتها الدول الأخرى، ونصرّ على استيراد المشكلات السياسية والصراعات الإقليمية فقط، ونرفض استيراد الحلول الفاعلة والتقنيات المتطورة وتطبيق ما جرى اختباره واثبت فاعليته، بل نصرّ على استنباط حلول جديدة غريبة وعجيبة. أي مراقب يعرف جيدًا أنّ الاختراعات اللبنانية هي من باب الإلهاء لاستمرار الوضع على ما هو عليه.
أما بالنسبة للفرز من المصدر، ففي الواقع هذا الموضوع الوحيد الذي لا خلاف عليه من كل الجهات ما عدا من يستفيد من الطمر. السؤال وبصرف النظر عن التشريع: لماذا لا يهتمّ المجتمع المدني والجمعيات البيئية والناشطون بموضوع هو أساس المعالجة، أي الفرز من المصدر بدلًا من النق والاتهامات؟ علمًا أنّ الوزير الحالي مقتنع أننا إذا لم نصل إلى الفرز من المصدر لن نصل إلى مشاريع تدوير مربحة، وإذا لم يصبح التدوير مربحًا لن يستثمر أحد في التدوير.
ومن أغرب الأمور التي تتعلّق بمعالجة النفايات والفرز من المصدر هو الاقتراح التي كنت قد تقدّمت به لوزير البيئة السابق وللحالي وذكّرته بعدة مقالات حولWaste Disposal Units أي تركيب فرّامة أو طحّانة على كلّ «مجلى» في البيوت والفنادق والمطاعم لطحن كلّ بقايا الطعام وغيرها من الفضلات العضوية، بحيث تُطحن وتذهب في المجارير، وهذا ليس اختراع «عبّودي». هذه الطريقة المعتمدة عالميًا في الدول التي نجحت في تقليص حجم النفايات من المصدر، وأثبتت الطريقة نجاحًا واضحًا. مثلًا في لندن تُجمع النفايات مرّة واحدة في الأسبوع وتقتصر على النفايات غير العضوية التي تُفرز بين ورقٍ ومعادن وبلاستيك، هذا أساسٌ للفرز من المصدر يحلّ مشكلة أكثر من 5 % من النفايات التي تتراكم يوميًا.
يجب أن نبدأ وبأسرع وقتٍ ممكن بإعطاء تحفيزات وإعفاءات من بعض رسوم البلدية لمن يقوم بتركيب طحّانة في منزله، ويكون جمع النفايات مرّة في الأسبوع فقط. عندها نفرض على الناس تركيب الطحّانة لتجنّب تراكم النفايات العضوية. أما الأغرب في القصة، فإنّ مجموعة من الخبراء البيئيين في الوزارة وخارجها جاؤوا بنظرية أنّ قطر القساطل قي لبنان غير كافية لهذه التقنية، علمًا أنّ الطحّانة تجعل النفايات العضوية سائلة. حجّةٌ سخيفة أخرى لعدم تطبيق أي حلّ متطور لمعالجة النفايات وإبقاء الواقع على ما هو عليه. مثلها مثل حجّة أنّ المحارق حلّ جيد، ولكن لا إمكانية للرقابة عليها، علمًا أنّ الرقابة اليوم أوتوماتيكية وآلية، حيث تُقاس الانبعاثات أوتوماتيكيًا ويُمكن وصلها بالوزارة مباشرة. وعندما اقترحنا الاستعانة بشركات أوروبية للرقابة، جاء الجواب أنه من الممكن رشوة هذه الشركات. تعطيل ربما يكون مقصودًا!
أحد الحلول المعتمد عالميًا هو في تلزيم المطامر والمحارق للقطاع الخاص مقابل بدل، حيث يُفرز ما يمكن فرزه وبيعه ومعالجة النفايات الأخرى عبر الطمر أو الحرق. يُفترض فتح المجال للشركات الخاصة لتتنافس على تقديم أفضل الخدمات بأسعار تنافسية، وفتح المجال أمام من يريد معالجة نفاياته باختيار السعر الأفضل، وهذا لا يجري على الطريقة اللبنانية بالحصرية والمحاصصة، حيث تلجأ الشركات التي التزمت المعالجة والفرز إلى طمر النفايات التي لا سوق لها. وبما أنّ البلديات ستدفع سعرًا للحرق أو الطمر ستحاول تسهيل الفرز وفرضه والتخفيف من الحرق والطمر وتشجيع تركيب الطحّانات من أجل تخفيض كلفة الطمر والحرق. وهذا حتمًا سيُنشئ صناعات تدوير جديدة واعدة.
منذ عام 2006 طرحنا العديد من الخطط، وصلت المشاريع الموضوعة إلى حدود 15 ألف صفحة، كنا نضطر في حكومة سعد الحريري إلى إدخال الملفات على «كرّاجة» لدرسها. اليوم تضاعفت هذه المشاريع ولكننا نراوح مكاننا. لم نلجأ إلى المقارنة بدولٍ أخرى أثبتت نجاحًا في موضوع النفايات.
في الخلاصة، إنّ كل اتحاد بلديات (أو محافظة) يجب أن يؤمّن قطعة أرض للمعالجة. ويجب على وزارة البيئة أن تنشر بوضوحٍ غير قابل للاستنسابية شروط إنشاء مطامر أو محارق. عندها يُسمح لكلّ من تتوفّر لديه الشروط بإنشاء معمل معالجة، وتختار البلديات ما يناسبها من سعر وخدمة.
هذه خارطة أولية وأساسية للطريق. إنّ تشجيع التنافس والربح من خلال النفايات سيشجع الشركات الخاصة للعمل بحرفية ومهنية عالية، لتحقيق أكبر قدرٍ من الأرباح من معالجة النفايات، فيجرى فرز حقيقي. وذلك سيخفف من النتائج السلبية على البيئة اللبنانية، لانّه إذا حصل الفرز الصحيح للنفايات وإعادة تدويرها ستنخفض نسبة النفايات المطمورة أو المحروقة. وما يحدث اليوم هو العكس، إذ أنّ الأهمال والتراخي في عملية المعالجة والفرز، يسبّبان نتائج كارثية على البيئة، وهو ما لم يعد يتحمّله لبنان. حتى إننا في بعض الأحيان نعيد طمر المواد المسبخة مما يعدّ هدرًا للمال والوقت.
اليوم ترتفع نسب الإصابة بالسرطان في لبنان إلى نسب مقلقة، ويستمر جماعة ناشطي البيئة يحذّرون من أنّ اعتماد المحارق في معالجة النفايات سيرفع نسب الإصابة بالسرطان. إذًا، ما يحدث اليوم أن ممارساتنا العشوائية تخطّت المعقول وصحّة اللبنانيين في خطر، ونرفض اعتماد حلول اعتمدتها دول تعتبر نسب الإصابة بالسرطان الأقل في العالم مثل: سنغافورة، اليابان، السويد، ألمانيا وغيرها.
ارحموا البيئة من بعض الفلاسفة البيئيين، لقد وصلنا إلى خط أحمر في التدهور الحاصل، طمر عشوائي وحرق عشوائي، ونرفض تطبيق الطرق المعتمدة عالميًا، ونروّج لفرز كامل 100% علمًا أنّ هذه النسبة، هي حلم كلّ دولة متطورة في الفرز وإعادة التدوير، لم يتحقق حسب علمنا في أي بلدٍ حتى اليوم .
مقال «هآرتس» مقلق لأنّ الدعاية تنطلق من نقاط ضعفنا لكسر لبنان اقتصاديًا. لم يعد مقبولًا الاستمرار على هذا النحو المقلق . تنتظرنا أزمة نفايات جديدة بسبب ضيق المطامر، وما زلنا ننتظر معجزة تحصل، ونستمر في طمر رؤوسنا في الرمال.
الوزير فادي عبّود/الجمهورية
السبت 3 آب 2019