إمْرَأةٌ تلامِسُ الخَيَال من ضبابٍ كثيف إلى عُريٍ في العَراء
مروان نجّار
منذ اندلاع ثورة الوجدان الغاضب على العقل الهادئ وأنماطِه، غداةَ الثورة الفرنسيّة والملحمة النابوليونيّة، ومع تدرّجِ الفنون والآداب نحو رومنطيقيّةٍ ثائرة وردّة فعل بارناسيّة هادئة تؤثر الفنّ للفنّ والشعر للشعر، وبعد قيامِ مساءلاتٍ واقعيّة باتّجاهاتٍ مختلفة ما بين طبيعيّة استقرائيّة Naturalisme واشتراكيّة مادّيّة Réalisme socialiste، بمواكبة ثورة صناعيّة قلبت معايير الحياة الحديثة، وقبل الصدمة الهائلة التي أصابت البشريّة بمفهوم الحرب العالميّة وما تبعها من هروبٍ إلى أدغال اللاوعي وإرهاصاتِ الفوق واقعيّة وهذيانِها الموحي، ومجّانيّةِ العبث، والتساؤلاتِ الوجوديّة، وقع انقسامٌ حادّ أنتج نخبة فكريّةً من جهة تبنّت معركة الحداثيّين الساعية إلى مزاملة الله بل منافسته على خلق عمل فنّيٍّ كامل، وأنتج من الجهة المقابلة عامّةَ الناس الذين شغلتهم احتياجات الدنيا فباتوا في كلّ مجالٍ مجرّد مستهلكين. باعتصام شعراء الحداثة وأدبائها في علياءِ بُرجهِم العاجيّ، أدبر الناس عنهم فصار متذوّقو آدابهم أقرب إلى أرستقراطيّة ثقافيّة من أهل الاختصاص المتفرّغين، أو أدعياءَ تذوّقٍ ناتجٍ عن تفوّقٍ لا يخضع بالضرورة لمعاييرَ أدبيّة بل لاعتباراتٍ اجتماعيّة واقتصاديّة وأحيانًا ترويجيّة. خير جسر امتدّ بين كتّابٍ "طليعيّين" وقرّاءٍ "طبيعيّين" ذلك الذي مدّه بول فاليري حين قال: "قصائدي ترمي إلى المعاني التي تُنسَبُ إليها Mes vers ont le sens qu'on leur prête" ولعلّ هذا الموقف الإيجابيّ هو الأكثر واقعيّةً في التعاطي مع الأعمال الأدبيّة والفنيّة ذات الإيحاء الغنيّ، التي رضي مبدعوها أخيرًا ألّا يصل المخلوق الفنّيّ إلى وجدان المتلقّي كاملًا كما في رؤيا خالقه، ولا ضير في إن يكون الله كاملًا والعالم الذي خلقه ناقصًا. إذ ليس في ذلك انتقاصٌ من الذات الإلهيّة. بمِزاجٍ كهذا قرأتُ رواية "امرأة تلامس الخيال" لصديقي الطموح ميشال أبو راشد، واضعًا نُصبَ عينيّ صفة "التواطؤ الإيجابيّ" بين المبدع والمتلقّي، وراسمًا لرمزيّة العمل أصولَها وأهدافها كما يمكنني، أنا القارئ غير المتفرّغ، أن أتعامل معها، فتحمّلوني. لعلّ أكبر خطأ أو خطيئة يقع فيها كاتب الدراسة التحليليّة لنصٍّ كهذا أن يتعامل مع المضمون وكأنّه طلسم برسم التفكيك فيعيدَ صياغة ما قرأه وفق ما تناهى إليه من معادلات وانطباعات في ما دعاه الغرب paraphrasing، مسطّحًا غرض المؤلّف جاعلًا من المتلقّي طرفًا منفعلًا لا فاعلًا ولا شريكًا متورّطًا مع صاحب الرؤيا. ولئن سألنا مبدعًا من هذه المدرسة أن يقيّم فهمنا لنصّه أو يوافق عليه، رفض الإصغاء إلينا واكتفى بالقول: إذا وجدت ما تلقّفته من إيحاءات وأعدت بناءه بوعيك وخيالك متماسكًا حتّى النهاية فتمسّك به، وإلّا فأعد التفكيك والبناء من جديد. لأكتفِ إذًا بما أقدر عليه. أكتفي بتناول المنهج الذي يسمح لنا أن نتوغّل في عالم هذه الرواية ونشقّ دربنا فلا يفرضَ أحد اتّجاها أحاديًّا يمنع الآخرين من التواطؤ والاستمتاع بمغامرة الإبداع. أوّل طرح يواجهنا في ضبابيّة العمل وعبثيّة اللمس والانقشاع علاقة الخيال بالحقيقة، وصراع الإثنين مع الواقع. فهل يكذب الفنّان؟ هل يناقض الواقع وبذلك لا يخدم الحقيقة؟ وفي جميع الأحوال، لماذا يكذب الفنّان بموجب مفهومنا اليوميّ للصدق والكذب، ولا يعتمد اللغة التقريريّة المباشرة، لغة أهل العلم والمنطق؟ إنّما الأديب الفنّان في المطلق، ممتهن كذب يدعوه بأشرف الأسماء ومنها الإيحاء، والاستعارة، والصورة، والرمز، والبديع... وأمامنا رواية كلّ صفحةٍ منها تَعبَق بالأكاذيب. إن تسألوا صاحبها يَقُل: خدمةً للحقيقة. فاللغة محدودة والحقائق واسعة يضيق فيقصّر عنها الكلام بأبعاده المرسومة في المعاجم والمصطلح عليها على مدى الموروث. لذلك لا بدّ للأديب في نقل رؤياه وتقاسمها مع المتلقّي الشريك، من أن يوسّع وعاء اللغة علّها تنقل حمولتها كاملةً أو أقربَ إلى الكمال. أكذبًا تعطى الألفاظُ أبعادًا تُوسِّعُها، نستعيرها من خارج المألوف فنضاعف طاقة الكلمة على التعبير، وقدرةَ الرؤية على العبور. إن قلت مثلًا لشدّة خوفي من عاصفة حين أبحرْت: هدر البحر! نقلت المألوف عنه ولكن ما نقلت الإحساس. أمّا حين أكذب فأستعير من ملك الغاب حضوره المرعب وأُسبغُه على أمواجِ يَمٍّ أخافني فأقول: زأرَ البحر، فيما ليس للبحر زئير، هل أكون قد كذَبتُ أم صدقت مع إحساسٍ لم تكن تكفيه حدودُ المألوف من الكلام؟ هذا هو الإيحاء، الكذب الصادق في جعل الحقيقة تعبر من وجدان إلى آخر، وبفعل هذا العبور تغتني العبارة. أسمّي هذا الضرب من الكذب فصاحة لأنّي أفصح به عمّا جرى وما ولّده من مشاعر وانطباعات، فتكتمل اللوحة. هذه الأبعاد الممنوحة للألفاظ من خارج المعاجم كي تلتقي من بعيد فتتّسع، أسمّيها بلاغة لأنّها تسمح لتجربتي ببلوغ ضمير الآخر. أدعوكم إلى قراءة "أكاذيب" هذه الرواية والاستمتاع بما تخدمه من "حقائق كبرى" لا تتّسع لها القواميس. إنّها رواية تمرّدت على حدود الواقع وكرّست للحقيقة نصيبها الحيويّ من الخيال. ألغوص في محيطات الكتاب المدرج ضمن "سلسلة الجلسة الواحدة" قد يطيل جلستنا إلى ما لا نهاية فدعوني أكتفي بالإضاءة على بعص معالمه. نحن في هذه الرواية أمام وجهات نظر متعدّدة. ألبطلة عبير نغوص في معاناتها وهواجسها وكوابيسها فنجد أنفسنا معنيّين برؤاها والعالم المحيط بها. ونحن أمام وجهة نظر الكاتب/الطبيب ريمون نصّار الذي أوجد (بل استقرأ) عبير فصنع لنا روايتها حاجبًا عنّا إلى حينٍ مآلها والمصير. ونحن أمام سهام... السكرتيرة الناجحة في إحضار النماذج لشخصيّات الطبيب الروائيّة، صلة الوصل بين واقع وحقيقة، بين موجود ومستقرأ، بين مصهور ومتصوَّر. كذلك نحن أمام وجهة نظر حادّة ولافتة، مصنوعة من خبرة طويلة وحكمة أنضجتها الأيّام، أمام فطنة العمّ طنّوس المعنيّ ذهنيًّا وإنسانيّاً بالرواية وبواضعها. أمّا الرؤيةُ التي تواجهنا وتوجّهنا فهي للصحافيّة الطموح نغم تقابلها سطحيّة رئيس التحرير الأستاذ فؤاد الذي يحكم على القطعة المعدّة للنشر نسبةً إلى "كثافة الجمل الاسميّة" الواردة فيها. نقّادنا أحيانًا يزاملون الأستاذ فؤاد هذا فيتناولون النوع الأدبي بمقياس نوع مغاير، ولا يراعون كون الرواية قد اتّخذت منحًى رمزيًّا، بل يصرّون على قياسها بالمعيار الواقعي، أو الرومنطيقي أو غيره. نسمع أحدهم يقول: ميشال أبو راشد لم يمنح شخصيّات روايته كامل حجمها الإنسانيّ والاجتماعي. والثابت أنّ هذه الرواية، خلافًا لما اعتدناه في مكتبتنا العربيّة، عرفت كيف تتعامل مع وسائلها فلم تهمل ميزة أو فضيلة. وإليكم البرهان. على نقيض ما هو شائع في معظم "رمزيّتنا" العربيّة المعاصرة تحمل هذه الرواية جوانب يندر العثور عليها محلّيًّا، وأوّلها عدم سقوط الرمز في خانة المعادلة أو في حدود التورية المباشرة. نحن العرب نتباهى بعلم الجبر وقد جعلنا رموزنا الأدبيّة مثل رمز المجهول (سين أو إكس) في المسائل الرياضيّة، ومتى أدركنا قيمة الرمز أو دلالته انتهت المسألة. هذا النوع الأدبيّ الذي لم تسقط فيه الرواية لا ينتسب إلى الرمزيّة Symbolism، بل إلى ما اصطلح العرب على تسميته أدبًا تمثيليًّا (لا علاقة للتمثيل المسرحي في هذه التسمية بل اشتقّوها من "المثال المقصود" أو "المكنّى عنه" ليعبّروا عن مصطلح Allegory). في "الأدب التمثيلي" allégorique يحمل كلّ لفظ أو تعبير دلالة أو معادلة واحدة غيرَ مباشرة (كناية أو تورية) ولا مجال لتنوّع الاحتمالات. قيمة سين أو إيكس رقم معلوم. هذا ما يحوّل التذوّق ضربًا من ضروب الأحاجي المسلّية فلا "المتلقّي شريك في الإبداع" ولا الخيال معنيّ بالبحث للرمز أو المثال عن أبعاده الممكنة. وممّا اعتدنا أن نخشاه في الترميز العربي أنّ أدباءنا في حالات كثيرة يحتفلون بأبعاد المرموز إليه على حساب المرموز به، وهذا ما تحاشاه ميشال أبو راشد بصفاء ذهن وسعة خيال، فأتقن عمليّة التوازن بين وظيفة كلّ شخصيّة في الحبكة، وقيمتها الإنسانيّة في المطلق. بوعي أو من دون وعي نجد الكاتب قد أعطى شخصيّاته أسماء لا تأتي اعتباطًا وإن لم يتكلّفها. فالكاتب الروائي داخل القصّة هو الدكتور ريمون، طبيب ينتهج العلم قبل الكتابة. لذلك نجد عنده منطلق العالم أو صاحب الفكر المنهجيّ. ينحت اللغة ليستخرج لنا ا سم "حقيقيال" جامعًا بوعيه وإدراكه بين حقيقة وخيال. لو كانت عبير هي التي تطلق الاسم لما احتاجت إلى هذا الجهد بل تبعت حدسها وحواسّها. وجعل اسم البطلة المحرومة من نعمة اللمس يرتكز على حاسّتها الأسمى في نظرها: حاسّة الشمّ. ومن دون أيّ استرسال أو إطناب، ربّما لاشعوريًّا، نجد الرواية قد أطلقت على بطلتها اسم "عبير". إيحاء متعمَّد أو متسلّل، لا يهمّ. فالشمّ إذ يعوّض عن مأساة اللمس يرتاح إلى عبير. والدكتور الذي يستقرئ شخصيّاته من الحياة ويبستنتج حوافزها من العلم والمراقبة الحميمة، تأتيه بالنماذج الحيّة سكرتيرته العازمة على النجاح وعلى كسب ودّه... تأتيه بهنّ مهما كلّفها الأمر من جهد ومجازفة حتّى لو أساءت إحداهنّ فهم دوافعها فقبّلتها على شفتيها. ما اسم هذه المرأة الفعّالة التي تصطاد لربّ عملها ومالك قلبها نماذجه البشريّة؟ "سهام". اسم أطلقته الرواية على التي باتت في يد الطبيب سهامًا تصيب ولا تخيب فتأتيه بالطرائد جاهزةً. وهل كثير على التي تصوغ الرواية وتعطيها تناسقها النهائيّ كي تملأ الصفحة وتبلغ الناس، أن يستعار لها اسم من التناغم الذي تسعى إليه، فتدعى "نغم"؟ والصديقة التي توفّر لعبير كتفًا تتلقّى الدموع وتسعد القلب المتألّم، لا غرابة في أن يكون اسمها "سعاد"، كما لا غرابة في أن يكون الكهل الذي يختزل ضمير الصحيفة وموروثها صاحب اسم من التراث القديم: "طنّوس". لا أكمل أو أجتهد فأنا لا أحسب الكاتب قد تعمّد اصطناع الأسماء بل ترك بعضها يملي نفسه أو يتداعى بما يكفي من الغمز أو الإيحاء. وهل يمكن أن نجزم مثلًا أنّ جبران خليل جبران حين أراد في "الأجنحة المتكسّرة" أن يخفي اسم حبيبته اللبنانيّة "حلا الضاهر" قام عمدًا ببعثرة معظم حروف اسم حبيبته الأميركيّة "ماري هاسكل" مستخرجًا منه اسم "سلمى كرامه"؟ أم تراها واحدة من إملاءات العقل الباطني الحافل بالنزعات والأماني والمخاوف والهذيان؟ سبق أن ذكرنا أنّ الكاتب لم يكتفِ بتوظيف الشخصيّات في خدمة دلالاتها الأدبيّة بل منحها، إلى جانب رمزيّتها، كامل إنسانيّتها. أليس الطبيب صاحب الرؤية ومصمّم المصائر، في الوقت نفسه إنسانًا ذا احتياجات وإرهاصات ومشاعر تتجلّى ببساطتها وتكاد تجعلنا ندينه؟ وأوضحُ مثال على ذلك علاقته بسهام ووصولها إلى تلك النهاية الكثيفة والأليمة التي ستولّد له ندمًا حقيقيُّا. أسلوبٌ أنسَنَ أدواتِ الرمز كفايةً بلا مغالاة، وهذا أيضًا من خارج المألوف عندنا، فلو أنّ أبو راشد أرضى بعض النقّاد فأكثر من تحليل شخصيّاته لكانت الرواية تأرجحت بين رمزيّتها وصرامة الرواية الواقعيّة الاجتماعيّة فسقطنا في عمل هجين. ليس هذا كلّ ما يقال. بين أيدينا تجربة رائدة تصلح لتعريف أجيالنا على موقف أدبيّ نتوق إليه. ولولا حرصي على عدم جعلكم تكرهون رتابة صوتي لما انتهيت عند هذا الحدّ... بل كنت مددت يدي لإزالة الضباب الكثيف وتبيان ما يخفيه من احتمالات، وعلى درب عبير سبحت في عري ذاتي متحرّيًا عمق ثناياها في العراء، ولارتشفت من إبريق الدكتور نصّار طراوةً نديّة وتابعت. فعسى أن تكون إصدارات ميشال الآتية مناسبةً حلوة تسمح لنا باستكمال الهناء، وإنصاف هذا الكنز الثمين من العطاء. شكرًا.