بين شقاءٍ وحبّ
منذ مئة عام كتب شبل عيسى الخوري المهاجر اللبناني إلى البرازيل قصّةً شخصية واقعية عن حبٍّ جارف حارق، بقيت هذه القصّة طيّ الكتمان إلى أن أبصرت النور في مستشفى ولادة الكتب دار نشر (سائر المشرق) لبنان بعد قرنٍ من حصولها على يد طبيب الأدب الماهر المتخصّص بالحالات المستعصية الأستاذ أنطوان سعد، كانت الولادة عسيرة، إضطر إلى إجراء عملية قيصرية لإخراج القصّة من رحم هرم وقد عَمدها بجهده تمحيصًا وتدقيقًا كونها مخطوطة قديمة كُتبت بقلم رصاص زادها الدهر غموضًا وإبهامًا، مطلقًا عليها اسم (سرّ المئة عام).
مقدّمة القصّة بقلم الأستاذ روبيرتو خطلب مدير أبحاث وثقافات أميركا اللاتينية في جامعة الروح القدس الكسليك أوضح فيها خارطة الطريق التي سلكتها القصّة منذ كتابتها حتى ولادتها، يليها مدخل بقلم الأستاذة غيتا حوراني مديرة مركز دراسات الانتشار اللبناني في جامعة سيّدة اللويزة، في هذا المدخل لمحة عن معاناة المهاجرين وانسلاخهم عن مجتمعهم وثقافتهم ولغتهم والدليل على ذلك قصّة بقيت في الاغتراب قيد الكتمان دون طبع إلى حين مؤجّل كأنها سرٌّ من أسرار ولادة الكون، كما تضمّن هذا المدخل كلمة شكر للذين ساهموا في إظهار هذا المولود من رحم النسيان كون الكاتب غير معروف ولا أخوة لقصّته ولا أخوات، يلي المدخل توطئة بقلم الأستاذ ميشال مرقص ضمّنها لمحة عن واقع القصّة ومعانات الحبيب والحبيبة.
شبل عيسى الخوري كاتب أُغلق في وجهه باب تمرّ عبره رياح الرغبات والحنين، تحاشى دربًا متعرّجًا يوصل إلى كرسيٍ على شرفة منزل قابع على ساحل البترون، انسكبت لهفته على أرض غربته فضمّها ليحتفظ بها عطرًا لأجواء أرض وطنه يتهادى إلى قلب من أحبّ التي تمنّت بدورها أن تشمّ شذاه عبر البحار فكان العبير يصل لقربها ولا تدركه بسبب عامل بريد جعله جشعه غافلًا عن مشاعر هياجة صادقة وحبّ سامي كأنه صخر قُد من جهنم. هذه اللهفة المزدوجة ناب عنها الفراق القسري فحبّ الحبيب والحبيبة وليد الارتباك الذي ذهب به الصمت المطبق إلى أقصاه. كاتب لم يستطع تأمين مظلّة تقيه رزاز الغربة الأسيدي، معشوقته لم تقدر على العبور الخاطف للمقلب الثاني من الكرة الأرضية. عاشقٌ ظهر شوقه خلال السطور كوقع حوافر جياد يسبقه غبار الماضي نحو منازل وطبيعة خلابة في بلدته عيناتا مسرح غرامه الأول والأخير وعلاقته العذرية بحبيبة أسطورية الجمال صعبة المنال بسبب الارتباط القاهر بكهل طمعًا بالمال والعيش الرغيد فكان زوجها كالتفّاحة اللمّاعة التي ضُرب لبّها بدودةٍ خافية إلى أن قُسمت وظهر القرف من اهترائها. زوجةٌ بقيت عذراء لم تتعثّر في غربتها من جراء معاملة زوجها الفظَّة، عملت وجنت وعادت هربًا إلى منزلها في وطنها الذي فضّلته على أميركا ومغرياتها. إنها أخطاء عشقية لحبٍّ صادق صعب الترجمة والتجسّد بسبب التقاليد الشرقية القاسية، بعد رحيل حبيبها لتأمين مستقبل لهما ريثما تُحل عقدة ارتباطها، أصبحت روحها مثخنة بخدوش تنكأ جراح ارتطامها بحبّها الصادق بسبب الهجران. لو أراد شبل العودة كانت أشجار الأرز والسنديان والصخور العنيدة في الوطن حملت حقائب عودته وحضنته مع حبيبته عند عودته لينام نوم اليقظة في ربوع الوطن، لكن الحرب الكونية الأولى قضت على أحلامه وآمالها وبقيت حياتهما بين شقاء غربة لوعة وحبّ خيالي. لكن كما هو واضح من الكتابة أن خياله لم يفارق أرض شبَّ فيها وأحبَّ في ربوعها، كخيال شاعر كتب لأخته عند الطلب منه أن يأخذها إلى غربته: (لا تطمعي بالهجر يا أختي رضا... داب قلب كلّ مين بلادو هجر... يا ريت بمتريت هالعمر انقضى... نايم عفرشة شوك ومخدة حجر) "متريت قرية في شمالي لبنان" أو كقصيدة شاعر اسمه لبنان كرم وهذا مطلعها: (وحياة أرز لفيك وعذوبة هواك... غير خمس سنين ما بقعد بلاك... ما بحبّ سدني والسكن فيها... ولو جرفت المال بربش الكراك) "ربش الكراك هو الرفش الإنكليزي ".
خلال السرّ الشيّق الغني بالمآسي تمثّل حقبة مزلّة من تاريخ الوطن مستمرّة إلى يومنا هذا خلال قصّة أخ الكاتب الذي أصيب بطلقٍ ناري بوجهه خلال تظاهرة ضد النصارى في طرابلس عام 1907 وما زالت الحروب الطائفية الأهلية تنتظر فتيل الإشعال. كما تبيّن حقد المحتلّ فهو لعدم قدرته إخضاء الأهالي والناس الأقوياء بعشائرهم ولحمتهم أخضع الطبيعة، كالأتراك عندما حرقوا حرش العقد في عيناتا وأتلفوا سندياناته الدهرية التي تشبه سنديانات باشان المذكورة في العهد القديم. وصفٌ مدهش لعادات جميلة كانت تمارس بقاعًا خارج إطار التشريع فقد كانوا يطبّقون شرائع القبائل الشفهية المكتوبة بعهود صادقة في تلك الفترة محافظين على تقاليد جميلة كانت غريبة عن حبيبة الكاتب وما لبست أن ألفتها وعشقتها كحبيبها في ومضة عين.
شبل عيس الخوري كاتب مغمور في غربة موحشة شاءت الصدف أن تظهر قصّته الوحيدة درة للشرق والغرب وتكون نبراسًا للحبّ الصادق الذي رحل مع القيم، عساه يعود.
يوسف طراد