SKoteinos الناسك الغامض حول إشكالية هرقليطس
د. مصطفى علّوش
ورقةٌ مقدّمة من الدكتور مصطفى علوش إلى جامعة الروح القدس الكسليك حول الفلسفة اليونانية.
الحلقة 1/3
مقدّمة
لم أطرق باب الفلسفة وأنا في الستين من عمري إلّا لأني شعرُت برغبةٍ رافقتني طوال سنوات وعيي لسبر غور المجهول الغامض. كلّ ذلك كان محاولة لتهدئة غليان الأفكار الدائم في رأسي، فذهبت إلى الفلسفة قبل سنوات من قراري العودة إلى قاعات الدراسة، وأمعنت بالقراءة والاستماع لمئات المحاضرات لباحثين وفلاسفة معروفين عبر العالم، لكن الفلسفة كما قال أفلاطون لا يمكن بلوغها إلّا من خلال تناطح الأفكار ونقاشها حتى تتبلور وتتنقى فتخرج من الفرضيات الفطرية والأفكار المسبقة. عدت إلى الدراسة من أجل ترتيب أفكاري ومناقشتها بشكل منهجي مع أصحاب الاختصاص حتى لا أبقى هائمًا في بحر الأفكار لوحدي دون بوصلة.
لكن ما وجدته حتى الآن هو أنني أدخلت نفسي في بحر أوسع بكثير مما كنت أبحرت فيه بإرادتي منذ سنوات، لقد تكشف لي كم كانت معرفتي محدودة وعشوائية وكم من الوقت والجهد سيلزمني للمتابعة، فكلما فتحت باباً تكشف لي كم وراء هذا الباب أبواب! ولكنني قررت الإستمرار بفتح تلك الأبواب مستعيناً بتشجيع الأساتذة الكرام الذين أولوني الرعاية والامتياز.
موضوع البحث
أحد الأبواب كان باب هرقليطس، فمن خلال الحوار مع الأب يوحنا عقيقي، أستاذي في مادة الفلسفة اليونانية، لاحظت بعض أوجه الشبه بين ما وصلنا من تعاليم منسوبة إلى زردشت وفتات الأفكار التي وصلتنا من هرقليطس. الواقع هو أن ما لفت نظري بشكل استثنائي تلك الحقبة العجائبية ما بين القرن السادس والرابع ق.م. التي سماها الباحث الفيلسوف ويل دورانت "فيض النجوم"، أو "العصر المحوري" بالنسبة لكارل جاسبر. فبعد اختفاء الحضارات المعروفة في أواخر العصر البرونزي في القرن الثاني عشر ق.م.، تحت وطأة عوامل غير محسومة اليوم بالكامل لجهة أسبابها، ظهرت على طريق الحرير ثلة من النوابغ مثل بوذا ولاو تزي وكونفوشيوس وزردشت وحزقيال، ومع هؤلاء بدا أن العالم المعروف في تلك الحقبة أخذ يتحول، عند بعض النخب، عن مبدأ الخضوع لسلطة عشوائية تعددية، للآلهة رسمها البشر على صورتهم بنزواتهم ورغباتهم وتقلبات أخلاقهم. في وسط ذاك العصر ظهر ناسك أفسس الغامض هرقليطس (540-475 ق.م.) على الشاطىء الأيوني الذي كان حاضنة الفكر اليوناني الأولى مع طاليس قبل ذلك بعقود. في بداية حياته انسحب هرقليطس من الحياة العامة ومن مستقبل سياسي واعد لكونه وريث عائلة من الطبقة الأرستقراطية، وكان قد برهن عن نبوغه مبكراً. يقول ريتشارد غيردلد الفيلسوف الأمريكي بأن هرقليطس "لجأ إلى الخيمياء ليلعب بالنار ساعياً لاكتشاف سر الطبيعة"، ومن خلال التأمل في النار استنتج نظرياته حول التدفق وحركة الكون والتغير الدائم، ومن خلال ما بقي من إرثه، وما كتب عنه آخرون من بعده، نرى تأثيره على فكر أفلاطون وزينون وفيلو الاسكندري وهيغل ونيتشه وهيدغر. ديوجينس لايرتس، مؤرخ الفلسفة من القرن الثالث م. قال :"يعتقد أن العمل المنسوب لهرقليطس هو كتاب "في الطبيعة"، وهو ينقسم لثلاثة أقسام: في الكون والسياسة واللاهوت. وقد حفظ الكتاب في معبد أرتميس، وحسب البعض فإنه اختار أن يكون محتوى كتابه غامضاً بحيث لا يفهمه إلّا "ذوي اللألباب". ويقال إن سقراط نفسه وجد صعوبة في فهم الكتاب، وحسب قول لايرتس فقد علق ما يلي عندما سئل عن رأيه به: "القسم الذي فهمته ممتاز، كذلك، إن صحّ القول، هو القسم الذي لم أفهمه، فهو يحتاج لغطّاسٍ ماهر لسبر غوره". من المتعارف عليه أن كتاب في الطبيعة قد فُقد، وما بقي هو 130 جزء لا يمكن التأكد من صحة نسبتها إلى هرقليطس بأكملها، من بينها، اعتبر ستون أصلية، بعد بحث شارك فيه العديد من الباحثين. ومن الممكن تصنيف أقوال هرقليطس الفلسفية في ستة عناوين:
1. نظرية التدفق.
2. نظرية الأضداد.
3. نظرية الكوزموس والنار. وهو مع فيثاغوراس، أوّل من استعمل لفظة "كوزموس" بالمعنى الفلسفي.
4. نظرية اللوغوس.
5. تصنيف البشر بين نائم ومستيقظ.
6. جملته الثلاثية الباطنية: "أيثوس، أنثروبوس، دايمون".
د. مصطفى علّوش
الأربعاء 13 شباط 2019