­

Notice: Undefined index: page in /home/lbnem/domains/monliban.org/public_html/monliban/ui/topNavigation.php on line 2

يا لبنان الكبير: أين أنت؟

ميّ ضاهر يعقوب

مئةُ سنةٍ في عينيك يا لبنان كأمس الذي عبر عام 1920 وأُعلِنْتَ فيه وطنًا كبيرًا مستقلًا، لا عربيًا كاملًا ولا أجنبيًا تابعًا، بل في منزلةٍ بين المنزلتين. شُبّه للفريق الأوّل أنك عربيّ مسلم من الأقحاح، وشبّه للفريق الثاني أنك من حضارة مختلفة تتكلّم الفرنسية وترنو إلى روما الجديدة بعين الفخر والولع. وبقيتَ تطير بجناحين، تعلو بهما في لحظات القوّة وتهبط مع كلّ ارتخاء. ويروح كلّ جناحٍ يشدّ في اتجاهٍ مغاير للآخر، وتكثر حاجتك إلى مزيدٍ من الأجنحة لمواجهة التيّارات من حولك، وبتّ أيها المسكين تترنّح في منزلةٍ بين المنزلتين، لا أنت في حالة نشوة، ولا أنت في حالة إحباط. وإذا بك ضائع في متاهات التاريخ، القديم والحديث وما بينهما، ممرٌ للحضارة لا مستقرّ فيها، والأمل ضعيف بتقدّمك نحو عصر نهضويّ جديد...
أين أنت يا لبنان الكبير؟ أين نحن؟ إغترابٌ داخل الوطن، هجرةٌ بلا رجعة، حروب صغيرة من أجل حقوق الطوائف، حروب كبيرة وتدخّلات عربية وأجنبية لقلب الموازين، أقزام وجبابرة في قصصٍ من الواقع المرّ... إنها سيرة دولة لبنان الكبير التي انطلقت في الربع الأوّل من القرن العشرين، فهل تستمرّ في الربع الثاني من القرن الواحد العشرين؟ إن الخط البياني لتتطوّر هذه الدولة لا يدلّ إلى سلامة المسيرة وصحّتها. فالبداية كانت ملأى بالأشواك تحقيقًا لحكم فريق مسيحي على الجميع. رُفعت عبارة "مجد لبنان أعطي له" على باب مقرّ البطريكية المارونية في بكركي من جانب سلطة الانتداب الفرنسية، ليظهر جليًا من سيحكم لبنان. فهل تنبّأ أحد في ذلك الحين أين سيحطّ هذا الوطن الصغير، الذي أعلن كبيرًا، بعد 98 سنة ونيّف من ذلك الإعلان؟
يتحدّث كتّاب ومؤرّخون جدد عن ساسة ورجال دين لبنانيين عملوا بقوّة من أجل إلصاق مناطق إضافية إلى دولة لبنان الكبير واستثناء مناطق أخرى مثل قرى معلولا وصيدنايا ووادي النصارى في شرق البلاد وشمالها، كما تبدو بوضوح خريطة لبنان المتعرّجة التي لا تعتمد الحدود الجغرافية للجبال حدودًا لها؟ ومن الطبيعي أن يتمّ تفسير الأمر كما يفسّره مسيحيون من طائفة الروم الأرثوذكس أبناء تلك القرى، بأنه كان مقصودًا إبعادهم عن الأكثرية المسيحية المارونية التي ستحكم لبنان، ولم يكن معظمهم في الأساس يدعم انسلاخ لبنان عن سوريا الطبيعية. وينقل كتّاب في هذه الأيام وثائق من تلك المرحلة عن التحضيرات لتشكيل دولة لبنان الكبير، منها اختيار الموارنة المعنيّين بالحركة السياسية، ضمّ أقضية الجنوب بأكثريته الشيعية بدل الأرثوذكس على الحدود مع سوريا الذين يمكن أن يشكّلوا عائقًا أمام تصرّف المارونية السياسية بالسلطة في لبنان، لأن الشيعة في نظر أسياد ذلك الزمن كانوا ضعفاء لا حَيل لهم ولا قوّة في مواجهة القدر المحتّم. ومن كان يتنبأ لهذا الواقع أن ينقلب رأسًا على عقب بعد حين من الزمن! وفي وثائق جديدة مترجمة تبيّن أيضًا أن طائفة الروم الكاثوليك في لبنان دعمت الحركة السياسية الناشطة في ذلك الحين مع بروز دور كبير لمطران الروم الكاثوليك في زحلة، كيرللس مغبغب، من أجل ضمّ زحلة وأقضية البقاع إلى الدولة الوليدة، من خلال رسائل إلى المرجعيات الفرنسية أوردها أخيرًا المؤرّخ الدكتور وسام كبكب في كتابه الجديد "المطران كيرلس المغبغب، الأسقف البنّاء وعرّاب دولة لبنان الكبير".
كلّ هذا حصل قبل الاستقلال. ومع الاستقلال الذي أُعلن عام 1943، انخرطت الطائفة الإسلامية السنّية في الإطار الجديد للدولة اللبنانية التي كانت ترفضها عمومًا ولا يقبل أبناؤها بديلًا عن انتمائهم العربي السوري. لكن ما كُتب كان قد كُتب، وانطلقت مسيرة لبنان الكبير وكان الحكم بالجناحين المسيحي الماروني والمسلم السنّي بميل واضح إلى ميزان الموارنة في رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش والأمن العام والمصرف المركزي وغيرها من المواقع القيادية الحساسة في البلاد.
اليوم، وفي أجواء التحضيرات للاحتفال بمرور مئة سنة على إعلان دولة لبنان الكبير، هل يمكن أن نتوقّف قليلًا لمراجعة ما حصل منذ الاستقلال حتى اليوم ونسأل أين أصبح هذا اللبنان الكبير الذي أؤتمن عليه من أُعطوا "مجد لبنان"؟ وهل لا يزال هذا العقد الاجتماعي صالحًا مذ عرف لبنان التمزقات الصغيرة والكبيرة بدءًا بحوادث 1958وتأثيرات حركة جمال عبد الناصر على المسلمين السنّة للتخلي عن لبنان والانخراط في الوحدة العربية؟ وكيف واجهنا تلك الحروب اللبنانية الفلسطينية السورية الإسرائيلية اليسارية اليمينية الإسلامية المسيحية على أرضنا من عام 1975 إلى عام 2000 لتغليب فئة على أخرى وتحصيل حصص وغنائم في السلطة، وكذلك في الحرب الإسرائيلية السعودية السورية الإيرانية اللبنانية الآذارية 8 و14، في تموز 2006 وتردّداتها الطوائفية العربية الفارسية حتى اليوم؟ وما سبق وما تبع من اغتيالات وتظاهرات مليونية وحركات فئوية، ومحاولات شبابية ومجتمع مدني للتغيير؟ ولم يحصل أي تغيير، بل لعلّه حصل تغيير لكن نحو الأسوأ ما يجعلنا نرثي ذلك اللبنان الجميل، ذلك الوطن الذي حكمه وَرَثة أختام السلطة العثمانية، وأصدقاء الجنرال الفرنسي غورو، ليتخلّوا شيئًا فشيئًا عن دوره الكبير في الإشعاع والنور، في الصحافة الحرة والتعليم الرائد والطبابة المتطورة والبيئة النظيفة والأنهر الرقراقة... كان أهراء روما في القمح، وخزّان الشرق الأوسط في المياه... واليوم لا نجرأ على وصفه بما يناسب وضعه المذري...
عفوك لبنان الكبير، أيها الوطن الصغير... مغتربون أيتام نحن، مرميون على قارعة الطريق لِمن يشترينا رقيقًا أبيض أو أسود لا فرق، الوحول من حولنا والضباب القاتم يلفّنا. وعلى الرغم من ذلك نبقى نغني ونقول قرّاديات وأشعار: يا هل ترى نعود إليك يا لبنان؟ ونجيب: إن عدتَ عدنا!
مي ضاهر يعقوب

الجمعة 19 كانون الثاني 2019