تعليقات على كتابي: الفلسفة الهيغلية: أوهام ماركس
حنّا ديب
الحلقة 4/4
المسألة الجديدة الثالثة التي تضمّنها كتابي عن فلسفة التاريخ
قلت إن الماركسية أصبحت خارج البحث التاريخي، وكل الآمال التي بنيناها على الشيوعية وضحّينا من أجل تحقيقها، نحن شيوعيو القرن العشرين، ذهبت من دون أن تترك أي أثر إيجابي لصالح تقدّم التاريخ وتحسّن الحياة البشرية. وقد أظهرت في مكانه أن السبب المباشر لانحراف ماركس عن خط الاستنباط السليم للتشكيلات الاجتماعية الاقتصادية كان قيامه بالعملية المحظورة Illicit Process في إطار استنباطه لتطوّر التشكيلات بطريقة المنطق الديالكتيكي ضمن مسيرة تطوّر المجتمع. فكما حذّر أرسطو وتبعه سائر المناطقة من خطر الوقوع في العملية المحظورة في المنطق الصوري (منطق أرسطو)، كذلك حذّر هيغل مع التشديد من خطورة الوقوع في العملية المحظورة في المنطق الديالكتيكي. وقد شرحت تحذير هيغل في في الصفحات 441-442 من كتابي، التحذير الذي أخذته حرفيًا عن كتاب "المنطق الكبير" لهيغل (المقدّمة: ص 25-26، من الطبعة الفرنسية التي اعتمدتها). في المنطق الشكلي=منطق أرسطو، الوقوع في العملية المحظورة يعني استنباط موضوعات في النتيجة غير متضمّنة في المقدّمات. وكذلك في المنطق الديالكتيكي العملية المحظورة تعني -كما أثبت هيغل في النص المذكور- إدخال موضوعات في المسيرة الديالكتيكية من خارج السير الطبيعي للديالكتيك. وكان ذلك عند ماركس بإدخاله الملكية العامة لوسائل الإنتاج في المسيرة الديالكتيكية لتطوّر التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية، من خارج خط التطوّر الديالكتيكي الطبيعي، العادي، لهذه التشكيلات. فمن أجل استمرار الخط الديالكتيكي لتطوّر التاريخ حسب المسيرة الماركسية كان ماركس يحتاج إلى إدخال الملكية العامة لوسائل الإنتاج من أجل إيجاد التلاؤم بين جانبي أسلوب الإنتاج: القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج. هنا وقع ماركس في العملية المحظورة. فالتلاؤم بين الجانبين كان يفرض أن تؤدّي المسيرة التاريخية الطبيعية إلى قيام وحدة جديدة وحقيقية بين جانبي أسلوب الإنتاج، أما ماركس فلما لم يجد هذه الوحدة، لما لم يستطع جمع عناصر هذه الوحدة، أخذ القوى المنتجة الرأسمالية الثابتة وجمعها مع علاقات إنتاج أتى بها من خارج التطوّر الطبيعي للتاريخ، من رأسه هو. وقد شرحت ذلك بالتفصيل في كتابي مبيّنًا كيف "أسّس" الشيوعية في "بيان الحزب الشيوعي" سنة 1848 بإقرار إلغاء حقّ الملكية (إنتبه: حقّ الملكية وليس ملكية ما)، حقّ الملكية الذي ناضلت البشرية من أجله ألوف السنين وربما أكثر من ذلك، يلغيه ماركس من دون حاجة إلى "النضال"! هذا ليس منطق ديالكتيكي وليس له علاقة بالعلم. وقد ذكرت في كتابي أن ماركس تابع التطوّر المنطقي الديالكتيكي السليم حتى مرحلة النظام الرأسمالي، لكنه بعدها انحرف عن الخط الديالكتيكي الطبيعي من خلال وقوعه في العملية المحظورة...
وقد أوضحت كيف أن المطلوب كان عدم الانحراف عن قوانين وقواعد المنطق الديالكتيكي الهيغلي، فانحرف ماركس ووقع في المستحيل. أما ماذا كان يحصل لولا هذا الانحراف الماركسي؟ حتمًا كان التاريخ سيتابع تطوّره ليصل إلى المرحلة التي تفرضها الظروف الاجتماعية في كلّ وقت، وهذا أوضحته بما لا يقبل الشك ولا الخطأ. والمؤكّد في هذا المجال أن التاريخ يتطوّر ضمن إطار الملكة الخاصة لوسائل الإنتاج وقد انتقل من الرأسمالية إلى الإمبريالية والآن نحن في مرحلة العولمة، ولدى التاريخ الكثير من المحطات ضمن نفس علاقات الإنتاج السائدة حاليًا (الملكية الخاصة) وربما مع بعض التعديلات لاحقًا. لكن لا التاريخ سيتوقّف ولا المسيرة الديالكتيكية لتطوّره ستتغيّر، بل ربما تطوّرت هذه المسيرة نفسها... لكن الماركسية توقّفت وانتهت. أما تطوّر التاريخ فلا يمكن أن ينطلق الآن إلّا من الحالة الراهنة التي تعيشها البشرية، ومنها تستنبط المرحلة القادمة في حينه. لقد لاحظنا أنه بين مرحلة نظام الرق والمرحلة الإقطاعية مرّت ألوف من السنين وبين الإقطاعية والرأسمالية مئات السنين، وها هي الرأسمالية تتطوّر وتنتقل ضمن نفس التشكيلة الأساسية (الرأسمالية نفسها) ولا نرى أنها أمام طريق مسدود، وعندما يصل تطوّر علاقات الإنتاج الرأسمالية الحالية إلى طريق مسدود، ستجد البشرية النظام الجديد الذي يناسبها وتعتمده، وحتمًا من دون إلغاء أية حقوق تهم الناس، إنما بالحفاظ على الحقوق التي ناضلت البشرية من أجلها وكرّستها. إن ما حطّمه ماركس كي يحلّ بذلك مشاكل البشرية هو الذي سبّب المشاكل الجديدة الأكثر والأكبر والأعقد. القضاء على حقّ الملكية! غير معقول! وكأن ماركس لم يدرس كم ضحّى أسلافنا من أجل الدفاع عن حقّ الملكية والحفاظ عليه؟ كأنه لم يقرأ هيغل في هذا المجال؟ هيغل الذي ألقى الضوء على النضالات الكثيرة والكبيرة التي قام بها الناس عبر التاريخ من أجل حق الملكية... فوق ذلك، يضع ماركس الخطط ويحدّد التحالفات الطبقية خاصة، من أجل القضاء على حقّ الملكية! وقد رأى ماركس أن القوى القادرة على القيام بتحرير البشرية والحفاظ على النظام العادل الذي يؤمّن الخير لكلّ الناس ويكون عادلًا للجميع: "من كلّ حسب كفاءاته، ولكلّ حسب حاجاته"، هذه القوى تتلّخص بالقوّة العاملة، قوّة العمّال، التي تدير الشعب وتتعاون في نشاطها مع الطبقة الفلاحية بشكلٍ خاص وأساسي لإكمال التحرير (الاجتماعي طبعًا) و"تركيز" المجتمع على ركن يقوم على هاتين الطبقتين أساسًا، ولا يعود ممكنًا، بالتالي، استثمار أحدهم للآخر. هذه القوّة العمّالية ستقضي حتمًا على جميع الطبقات وتقضي على ذاتها في نفس الوقت، محرّرة بذلك المجتمع من الصراع الطبقي، هذا المجتمع الذي سيصل أفراده إلى علاقات اجتماعية أكثر من أخوية وأكثر من عادلة... وهذا ما عناه ماركس باعتماد رمز "المطرقة والمنجل" كشعار للثورة الشيوعية القادمة.
يلي هذه الفقرة، الجزء الأخير من القسم الثالث من الجديد الذي تضمّنه كتابي، الجزء الذي يحّدد مسيرة تطوّر المجتمع اللاحقة والقوى الاجتماعية التي ستلعب دورًا في تقدّم البشرية وتضمن الحرّيات التي هي هدف الحياة الإنسانية، كما تحدّد القوى الاجتماعية الذي سيوجّه ضدها النضال الاجتماعي، وذلك بالخطوط العريضة طبعًا، أما للتفاصيل فلا بدّ من العودة إلى كتابي نفسه.
الجزء الأخير من المسألة الجديدة الثالثة التي تضمّنها كتابي عن فلسفة التاريخ
قلت إن فريدريك إنجلس اعتمد، كمصدرٍ لدراسته "التاريخ القديم"، في كتابه "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"، كتاب الأميركي لويس هنري مورغان، هذا الأخير الذي عاش أربعين سنة بين الهنود الحمر الأميركيين حيث تبنّته إحدى قبائلهم. وقد كتب مورغان كتابه التاريخي الرائع عن تطوّر التاريخ القديم باسم:
“Ancient Society, or researches in the Lines of Human Progress from Savagery through Barbarism to Civilization”.
"المجتمع القديم، أو أبحاث في خطوط التقدّم الإنساني من الوحشية عبر البربرية إلى الحضارة".
وإنجلس يختم كتابه المذكور بكلام مورغان نفسه، أي بنفس الخاتمة التي ختم بها مورغان كتابه مبيّنًا رأيه بالحضارة. في هذه الخاتمة نرى، بشكلٍ ملفت، الفرق بين المخطّط التاريخي لماركس وبين رأي مورغان الأكثر عمقًا ودقّة في تحليله لتطوّر التاريخ، واستنتاجاته العلمية التي لا تستند على أية فكرة مسبقة أو غاية شخصية، بل على العلم وحده. يختم مورغان كتابه بالقول، كما ينقل عنه إنجلس حرفيًا:
"ومنذ ظهور الحضارة، غدا نمو الثروة على درجة من الضخامة، وأشكالها على درجة من التنوع، واستعمالها على درجة من الاتساع، وإدارتها في مصلحة المالكين على درجة من المهارة، بحيث أن هذه الثروة أصبحت قوّة لا تقهر، تجاه الشعب. إن العقل البشري يقف حائرًا قلقًا أمام صنيعته بالذات. ولكنه سيأتي مع ذلك زمن يبلغ فيه العقل البشري من القوّة والقدرة ما يمكنه من السيطرة على الثروة، ويقرّر فيه على السواء موقف الدولة من الملكية التي تحميها الدولة، وحدود حقوق المالكين. لا ريب أن مصالح المجتمع تعلو على مصالح الأفراد، وينبغي إقامة علاقات عادلة ومتناسقة بين هذه وتلك. إن مجرد السعي وراء الثروة ليس هدف البشرية النهائي إذا ظل التقدّم قانون المستقبل كما كان قانون الماضي. إن الزمن الذي تصرّم منذ فجر الحضارة إنما هو جزء تافه من الزمن الذي عاشته البشرية، جزء تافه من الزمن الذي ستعيشه. إن هلاك المجتمع ينتصب أمامنا مهدّدًا بوصفه خاتمة مرحلة تاريخية تشكّل الثروة هدفها النهائي الوحيد؛ لأن هذه المرحلة تنطوي على عناصر دمارها بالذات. إن الديمقراطية في الإدارة، والإخاء في المجتمع، والمساواة في الحقوق، والتعليم العام، كلّ هذا سيقدّس المرحلة التالية، العليا من المجتمع التي يسعى إليها الاختبار والعقل والعلم على الدوام. وستكون بمثابة انبعاث -ولكن بشكلٍ أرقى- للحرّية والمساواة والإخاء في العشائر القديمة". وقد أنهيت كتابي بنفس خاتمة مورغان، مع مقارنة نقدية ديالكتيكية مختصرة بين نظرة كلّ من ماركس ومورغان لحلّ المشكلة التي وقع فيها العقل البشري نتيجة الحضارة التي خلقها هذا العقل نفسه. علمًا أن المشكلة بخطوطها العريضة لا تختلف بين أحدهما والآخر.
عند مورغان المشكلة تكمن في أن الثروة ازدادت في أيدي فئة قليلة من المالكين، إلى أن أصبحت "قوّة لا تقهر" تجاه الشعب، والعقل الذي أوجد هذه القوّة يقف حائرًا أمام جبروت صنيعته هذه. وعند ماركس ازداد الرأسمال (الثروة) أيضًا في أيدي فئة قليلة من الرأسماليين وحُرم منها معظم الشعب، هذا الشعب الذي يتكوّن من العمّال أساسًا ومن فقراء ومحتاجي المجتمع الآخرين الذين من دونهم لا إنتاج ولا ثروات. فكيف حلّ كلٌّ منهما هذه المشكلة التي تطال بظلمها الفئات الواسعة من المجتمع والتي تشكّل معظم الشعب. لقد حلّ ماركس المسألة بفكرةٍ واحدة من عنده، ناقشت تفاصيلها في كتابي، وأساسها القضاء على حقّ الملكية بالشدة والعنف، وعندها يقيم ديكتاتورية البروليتاريا ويحقّق بطرقها الديكتاتورية البروليتارية مجتمع شيوعي ليس فيه مجالًا للاستثمار ولا للحاجة: من كلٍّ حسب كفاءاته ولكلٍّ حسب حاجاته. ومع ديكتاتورية البروليتياريا تكون المعارضة مستحيلة. علمًا أن ماركس لم يستبعد فشل هذه الطريقة "للتحرّر". أما مورغان فكان قد أعطى حلًّا لهذه المشكلة يتفادى فيه كلّ أخطاء ماركس وكأنه كان يعرف الموقف الماركسي مسبقًا.
يرى مورغان، أن المجتمع خرج عن الحياة "الإنسانية" الطبيعية التي كان يعيشها في زمن المجتمع البدائي، زمن العشائر القديمة. ومحل التعاون والمحبّة والعمل المشترك الحرّ من الجميع من أجل مصلحة الجميع، جاءت الثروة لتفرّق الشعب المتآلف. هذه الثروة هي "صناعة" العقل البشري. والمشكلة التي طرحت هنا وغيّرت حالة المجتمع الإنسانية هي من صُنع العقل البشري نفسه. ولكن يرى مورغان أن العقل لا يتوقّف عند مشكلة أنشأها هو نفسه، وكأنه استنفذ كلّ قوّته وقدرته وأصبح عاجزًا عن حلّ مشكلته. أبدًا، القلق الذي يعانيه العقل البشري من عدم تمكّنه من السيطرة على الثروة، يعوّضه هذا العقل نفسه من خلال نموه وتطوّره المستمر، حيث الثروة التي تكدّست عند فئة معينة تحتاج إلى قرارات حكومية لمنعها من التحكّم برقاب الشعب، لأن الدولة تحمي هذه الثروة -الملكية الخاصة. وهكذا موقف يحتاج إلى تطوّر العقل لدرجة يتمكّن معها من تحديد موقف من الملكية الخاصة التي تحميها الدولة، وذلك، بالنسبة لمورغان، يكون بتحديد حقوق المالكين، وهذا يفترض نظامًا شاملًا يضع قوانين تحدّد هذه المسألة الجوهرية في حياة الأمم. وهنا ينتبه مورغان مسبقًا بدقة إلى الخطأ الذي وقع به ماركس حيث ألغى "حقّ الملكية" بالشدة والعنف، ويطرح المسألة من جهة العلاقة بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة. ويحلّ مورغان هذه المسألة ديالكتيكيًا فعلًا. "فالمصلحة العامة تعلو على مصالح الأفراد، "وينبغي إقامة علاقات عادلة ومتناسقة بين هذه وتلك".
إن السعي وراء الثروة ليس هدف البشرية النهائي. وما دام تقدّم المجتمع والإنسانية هو القانون، فلن يكون هدف البشرية هو السعي وراء الثروة، بل استنتاج مورغان هو العكس، وبهذا الصدد يقول حرفيًا: "إن هلاك المجتمع ينتصب أمامنا مهدّدَا بوصفه خاتمة مرحلة تاريخية تشكّل الثروة هدفها النهائي؛ لأن هذه المرحلة تنطوي على عناصر دمارها بالذات". لأن هدف البشرية ليس زيادة الثروات في أيدي فئة قليلة وحرمان الأغلبية منها. ولذلك، يقول مورغان إنه بعد هذه المرحلة التي تشكّل الثروة هدفها النهائي، فإن "الديمقراطية في الإدارة، والإخاء في المجتمع، والمساواة في الحقوق، والتعليم العام، كلّ هذا سيقدّس المرحلة التالية، العليا من المجتمع التي يسعى إليها الاختبار والعقل والعلم على الدوام. وستكون بمثابة انبعاث -ولكن بشكلٍ أرقى- للحرّية والمساواة والإخاء في العشائر القديمة". رائع
إذن، ليس إلغاء حقّ الملكية بالشدّة والعنف، وحماية الملكية الاجتماعية بواسطة ديكتاتورية البروليتاريا، على الطريقة الماركسية، بل تقدّم الوعي بالحرّية على الطريقة الهيغلية. وإقامة الديمقراطية في الإدارة، والإخاء في المجتمع، والمساواة في الحقوق، والتعليم العام، هذه النجاحات الحضارية التي ستقدّس المرحلة التالية، العليا من المجتمع التي يسعى إليها الاختبار والعقل والتعليم العام على الدوام، كما يرى مورغان، هذا ما يحتاجه المجتمع اليوم وهذا سيكون هدف الثورة القادمة.
لقد قرّرت إيقاف كلّ مشاريعي الفكرية موقّتًا والتفرّغ لموضوعٍ أراه الأكثر أهمّية في هذا الوقت بالذات: كيف أخذ ماركس ديالكتيك هيغل بالطريقة التي تناسبه ليستنتج منه نظريته "الاشتراكية العلمية" بعد تحريفه واتهام هيغل بأنه أجهض الديالكتيك، أي يتهمه بما قام به ماركس نفسه. إنها مسألة طويلة وتحتاج إلى شروح ستقرأونها في كتابي المذكور. ولكني أعطي مثلَين في هذا المجال عن جهل قادة المغفور له الحزب الشيوعي بالديالكتيك الهيغلي (إضافة إلى كلِّ مثقّفي الحزب تقريبًا) للتدليل على ضرورة دراستي من جهة وضرورة العودة إلى هيغل لمعرفة الأوهام التي أوصلت ماركس إلى نظرية الشيوعية. المثل الأوّل جاء في رسالة مني يومها إلى الصديق الأستاذ ماهر أبو شقرا في 21 كانون الأوّل/ديسمبر 2014، وجّهتها على صفحة الفايسبوك هذه وأعيد نشرها اليوم بعد اختصارها بما يكفي ليدرك القارىء قصدي وإعفائه مما لا علاقة له بالموضوع. وفحوى رسالتي تلك:
قلنا سابقًا إنه لم ينوجد يومًا مفكّرين في الحزب الشيوعي السابق. والحقّ أن وصف بعضهم "بالمفكّر" هو أمر مخجل. ببساطة، لم أجد عند أي منهم فكرة تستحق الاهتمام في يومٍ من الأيام. سنة 2000 كتبتُ مقالًا في المجلّة المصرية "أوراق فلسفية" بعنوان "الفلسفة هي تأسيس العقلاني -هيغل لم يغب عن قمّة الألفية الثالثة". في تلك المقالة طرحت ببعض التفصيل المسألة الأساسية في الفلسفة الهيغلية التي أدّت إلى انقسام مدرسة هيغل إلى يمينٍ ويسار، أعني قول هيغل في التمهيد لكتابه "مبادىء فلسفة الحقّ": "كلّ ما هو واقع هو معقول وكلّ ما هو معقول هو واقع". وفي مقالي المذكور وفي إطار شرحي للنقص لدى الشيوعيين بمعرفة الديالكتيك الذي تبنى عليه النظرية الماركسية، ذكرتُ تعليقًا صحفيًا لأحد الخمسة الكبار الذي يعتبر نفسه قائد شيوعي، حيث قال في ذلك التصريح: إن ماركس كان على حقّ لو قال "بعض ما هو واقع هو معقول بدلًا من كلّ ما ه ...". وقد طرحت انتقادي هذا على أساس أن الفلسفة لا تعرف التبعيض particular بل إنها، وبنظر الماركسيين قبل غيرهم، تدرس الكلّي، universal أو تهدف معرفة الكلّي فقط وتترك الجزئيات للعلوم المتخصّصة المختلفة كلّ في مجالها. إضافة إلى إنني شرحت بدقة فكرة هيغل بشكلٍ يفترض أن يراجع هذا "القائد" معلوماته على الأثر. فقد أضفت التوضيح التالي في نفس المقال ونفس الفقرة: "والحقيقة أن الترجمات العربية لم تذكر كمرادفٍ لتعبير هيغل (Wirklich) سوى كلمة واقعي؛ وكذلك في اللغات اللاتينية لم يستعمل سوى تعبير réalité بالفرنسية، وما يقابله باللغات اللاتينية الأخرى، والذي يعني بالألمانية realität، وقد استعمل جان هيبوليت تعبير réalité effective، وحديثًا يستعملون effectivité، كما استعمل جاك تاكسييه في ندوة باريس سنة 1990 تعبيرًا قريبًا هو réalité véritable يمكن أن يعبّر أفضل من التعابير الأخرى المستعملة عن مقصد هيغل. واستعمل والتر ستايس Walter Stace بالإنجليزية تعبير actuality، غير المعبّر عن مقصد هيغل أيضًا. هذا في حين أن هيغل لم يستعمل كلمة realität الألمانية بل استعمل الصفة Wirklich عندما طرح موضوعته الشهيرة في 25 حزيران 1820 في مقدّمة كتابه «مبادىء فلسفة الحقّ»". هناك يقول هيغل حرفيًا:
“was Vernünftig ist, das ist Wirklich, und was Wirklich ist, das ist Vernünftig”
أي: «ما هو عقلي هو واقعي حقيقة، وما هو واقعي حقيقة هو عقلي» [أي أنني ترجمت كلمة Wirklich إلى العربية بالواقع الحقيقي أو الواقعي حقيقة. ثم أتابع في المقال موضوع البحث:
"لذلك يمكن القول إن سوء الفهم هذا يعود في الجزء الأساسي منه إلى عدم التعمّق في دراسة الهيغلية وأخذها عن الكتب السوفياتية أكاديمية الطابع من دون عودة أي شيوعي عمومًا إلى هيغل؛ ويعود، من جهة أخرى، إلى عدم وجود تعبير في اللغات الأوروبية، موازٍ حرفيًا لتعبير Wirklich الألماني، مما يؤدّي إلى الخلط بين التعابير المختلفة التي يستعملها هيغل ليعبّر عن الأشكال المختلفة للوجود. ولنفس الأسباب التي ذكرناها اعتاد الناس، في حياتهم اليومية، على هذا الخلط بين التعابير، فكلّ ما هو عارض -ويعطي هيغل كمثالٍ على ذلك الشر والخطأ- وأي وجود فعلي existence مهما كان نحيلًا وعابرًا يعتبرونه واقعيًا حقيقة، في حين أنه وجود عارض ولا يستحقّ التسمية المفخّمة: Wirklich هذه، حتى بالنسبة لمستوى وعي عادي، بحسب تعابير هيغل نفسه، الذي عبّر عن سخطه من سوء الفهم هذا حيث نراه يقول في مقدّمة الطبعة الثانية لـ«أنسيكلوبديا العلوم الفلسفية» لسنة 1827 و(1830)، (إقرأ:
Hegel: Encyclopédie des sciences philosophiques, Librairie philosophique J. Vrin, Paris 6, Place de La Sorbonne, Vème, 1994, p. 169)
أي بعد أكثر من سبع سنوات على أطروحته التي نحن بصدد مناقشتها، وبعد خمسة عشر عامًا على نشره للكتاب الأوّل من «علم المنطق» المعروف بالمنطق الكبير: «إن العرضي هو وجود فعلي ليس له قيمة أكبر من الشيء الممكن، الذي يمكنه أن لا ينوجد مثلما هو موجود. لكن، إذا كنت قد تكلّمت عن الواقع الحقيقي، يجب أن يفكّر المرء من تلقاء ذاته بأي معنى استعمل هذا التعبير، لأنه في منطق مفصل [المقصود المنطق الكبير] عالجت أيضًا الواقع الحقيقي Wirklich وميّزته بالضبط ليس فقط عن العرضي في حينه، الذي هو أيضًا وجود فعلي بالتأكيد، إنما من أجل الدقة أكثر، ميّزته عن الوجود المتعيّن être-là=Dasein، عن الوجود الفعلي Existenz=existence وعن التعيينات الأخرى". هل أن "القائد" المقصود كان يعرف أو هو يعرف الآن أن هيغل يقول عن شكل الوجود الذي هو Wirklich إنه وجود مفخّم أي أنه أعلى وأصدق أشكال الوجود؟ لكن قبل أن أتابع حول هذه المسألة المفصلية في فلسفة هيغل، اليكم الموقف اللاحق لهذا "القائد".
سنة 2007 نشرتُ كتابًا بعنوان "مذكّرات شيوعي لبناني أو ذكريات من قبر الأحياء". في هذا الكتاب انتقدت من دون رحمة تخلّف الشيوعيين اللبنانيين وعدم سيرهم في الاتجاه الصحيح سياسيًا وعدم فهمهم الواقع القائم واستنادهم طوال فترة تجربتي الحزبية على وقائع طواها الزمن، كما صفّيت علاقتي نهائيًا مع مدّعي المعرفة هؤلاء من دون مراعاة من جانبي لصداقات واهية أو صداقات وهمية لا يشكّل الحزب أساس حقيقي لها، وأنا أقول الآن وبكلّ تواضع إني لا أقبل أن اكون بمستواهم أبدًا من الناحية المعرفية، كما صفّيت علاقتي مع الماركسية كنظرية عقائدية ظاهرها علمي وواقعها الافتقار إلى الواقعية بالمعنى العادي، ولهذا السبب قلت عنها يومها في كتابي "إن الماركسية هي نظرية مغرية". وفي أحد الأيام اللاحقة، وكنت قد أهديت كتابي إلى أحد الأصدقاء، وهو من قرية محازية لعماطور قرية "القائد" المقصود، فجاء بعدها هذا الصديق ليخبرني أنه سأله ("القائد" المقصود) عما إذا كان قد قرأ كتابي المذكور أعلاه، فأجابه أنه لم يقرأه وأردف "القائد": طريف أمر هذا الإنسان (والمقصود أنا حنّا ديب)، لقد كان إنسانًا طيّبًا وذي أخلاق عالية ومثاليًا في كلّ شيء، فكيف تحوّل هكذا؟ والحقيقة أن ثقتي بهؤلاء القادة قد أدّت إلى وقوعي في الحيرة العميقة لدرجة إني لا أزال حتى الآن أفكّر وأدرس وأحلّل ما إذا كان من الأفضل لي أن أتخلّى عن معارفي الفلسفية والديالكتيكية تحديدًا وأعود للموافقة على عبقرية ذلك "الرفيق" القديم من أجل الحفاظ على صداقته و"قيادته" لي! والواقع، لا يهمّني ولا من ناحية رأي القائد المذكور بمستوى أخلاقي
ولكن ليتني أجد طريقة توصله إلى معرفة ديالكتيك هيغل. إن ديالكتيك هيغل صحيح ولكن دراسته ليست سهلة، وما أخذه ماركس لا يعبّر عن حقيقة هذا الديالكتيك كما يدّعي... وهذا موضوع كتابي الجديد عن تحريف ماركس للديالكتيك الهيغلي.
المنطلق الفلسفي الأساسي عند هيغل هو أن العقل وحده موجود بالفعل والعقل وحده الحقيقي. والواقع الحقيقي Wirklich عند هيغل هو بكلّ بساطة وحدة الماهية والظاهر في منطقه الديالكتيكي أو علم المنطق Die Wissenschaft Der Logik المعروف بالمنطق الكبير. لذلك لا يوجد شيء واقعي حقيقة عنده سوى العقلي=المعقول. والواقعي حقيقة هو وحدة الماهية والظاهر، إذًا هو عقلي=معقول. إذًا العقلي وحده موجود حقيقة. لذلك انطلق هيغل، في موضوعته التي نحن بصدد دراستها، من أفلاطون، الذي، كما يقول هيغل، "أثبت أنه كان روحًا عظيمة لأن المبدأ الذي دار حوله ما كان مقرّرًا في فكرته، هو بالتحديد المحور الذي دارت حوله الثورة العالمية التي كانت تحضر ذاتها: “Was Vernünftig ist, das ist Wirklich, und was Wirklich ist, das ist Vernünftig”. وكلّ التفاصيل الضرورية سأشرحها في كتابي المذكور.
فهل يفكّر قادتنا أن عليهم أن يتعلّموا قبل أن يتربّعوا على عرشٍ يحيط بهم فيه الجاهلون وحدهم. وقبل أن يصرّحوا وكأنهم العالمون بكلّ شيء من دون حاجة لذهابهم إلى الجامعات؟ وسنرى قريبًا، وربما غدًا، مفهوم قائد آخر من الخمسة الكبار للديالكتيك الهيغلي. هذا القائد هو "المفكّر" كريم مروة كما عرفوا عنه في جريدة النهار في فترة سابقة. مع تأكيدي أنه لم ينوجد ولا مفكّر على مستوى معقول في الحزب الشيوعي منذ تأسيسه سنة 1924.
الجمعة 18 كانون الثاني 2019