الْحَاسُوبُ ٱلْفِينِيقِيّ

تُشَكِّلُ أَجْهِزَةُ ٱلْحَوْسَبَةِ عَصَبَ حَيَاتِنَا ٱلْحَالِيَّةِ، مُغَيِّرَةً جَوَانِبَ عِدَّةً مِنْ حَيَاةِ ٱلإِنْسَانِيَّةِ. فَنَحْنُ نَعِيشُ عَصْرَ ٱلْحَاسُوبِ ٱلإِلِكْترُونِيِّ. وَبِوُجُودِ مِلْيَارَاتِ ٱلْمَقَاحِلِ (الترَانْزِيسْتُورَات) فِي ٱلْهَوَاتِفِ ٱلذَّكِيَّةِ، قَدْ تَبْدُو أَجْهِزَةُ ٱلْحَوْسَبَةِ مُعَقَّدَةً لِلْغَايَةِ، إلَّا أَنَّها فِي ٱلْحَقِيقَةِ مُجَرَّدُ آلَاتٍ بَسِيطَةٍ تَقُومُ بِوَظَائِفَ مُعَقَّدَةٍ مِنْ خِلَالِ طَبَقَاتٍ تَجْرِيدِيَّةٍ عِدَّةٍ.
صَحِيحٌ أَنَّ ٱلْحَوَاسِيبَ ٱلإِلْكِتْرُونِيَّةَ جَدِيدَةٌ نِسْبِيًّا، إِلَّا أَنَّ ٱلْحَاجَةَ إِلَى ٱلْحَوْسَبَةِ وَٱلْحِسَابِ لَيْسَتْ بِجَدِيدَةٍ، وَقَدْ كَانَ ٱلْفِينِيقِيُّونَ ٱلْبَنَّاؤُونَ ٱلتُّجَّارُ أَرْبَابَهَا، وَذٰلِكَ بِإِقْرَارٍ مِنْ مُعْظَمِ ٱلْبَاحِثِينَ فِي تَارِيخِ ٱلْمِلَاحَةِ وَأُصُولِ ٱلرِّيَاضِيَّاتِ، حَيْثُ إِنَّ أَوَّلَ جِهَازٍ مُعْتَرَفٍ بِهِ لِلْحَوْسَبَةِ هُوَ ٱلْعَدَّادُ ٱلْفِينِيقِيُّ ٱلْمَعْرُوفُ بِـ"ٱلأبَقِس/أَبَاقِس" Abacus، وَهْوَ كِنَايَةٌ عَنْ آلَةٍ حَاسِبَةٍ تَعْمَلُ بِٱلْيَدِ، تُسَاعِدُ عَلَى إِضَافَةِ وَطَرْحِ ٱلْعَدِيدِ مِنَ ٱلأَرْقَامِ، كَمَا أَنَّهَا تَسْمَحُ بِتَخْزِينِ ٱلْحَالَةِ ٱلْحَالِيَّةِ لِلْحِسَابِ، تَمَامًا كَمَا ٱلْقُرْص ٱلصُّلْب Hard drive، وَهْوَ وَحْدَةٌ رَئِيسِيَّةٌ لِتَخْزِينِ ٱلْبَيَانَاتِ ٱلرَّقْمِيَّةِ فِي ٱلْحَاسُوبِ.
مَعَ ٱلإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ "سترَابُو" Strabo قَدْ ذَكَرَ ٱلْفِينِيقِيِّينَ ٱلصَّيْدُونِيِّينَ كَمُحَقِّقِينَ وَمُسْتَكْشِفِينَ شَغُوفِينَ فِي عِلْمِ ٱلْفَلَكِ كَمَا فِي عِلْمِ ٱلأَعْدَادِ، مُعْتَبِرًا أَنَّهُمْ قَدْ أَعَدَّوْا ذَوَاتَهُمْ لِهٰذِهِ ٱلْعُلُومِ مِنْ خِلَالِ فَنِّ ٱلتَّرْقِيمِ وَمِنْ خِلَالِ مِلَاحَاتِهِمِ ٱللَّيْلِيَّةِ، فَكِلَاهُمَا ضَرُورِيَّانِ لِلتِّجَارَةِ وَلِلرِّحْلَاتِ ٱلْبَحْرِيَّةِ. كَمَا مِنَ ٱلْمَعْلُومِ أَنَّ عَالِمَ ٱلرِّيَاضِيَّاتِ "پيتَاغُور" Pythagoras (حَوَالَى 580-495 ق.م.) هُوَ ذَاتُ أُصُولٍ فِينِيقِيَّةٍ، حَتَّى إِنَّ ٱلْمُؤَرِّخَ "هِيرُودُوتُس" Herodotus (حَوَالَى 485-425 ق.م.) ذَكَرَ أَنَّ "طَالِيس" Thales (حَوَالَى 620-546 ق.م.) هُوَ أَيْضًا فِينِيقِيٌّ، وَفِي كُلِّ ذٰلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى ٱلدَّوْرِ ٱلرَّائِدِ لِلْفِينِيقِيِّينَ فِي عَالَمِ ٱلأَرْقَامِ وَٱلْفَلْسَفَةِ وَٱلرِّيَاضِيَّاتِ.
تَمَّ ٱبْتِكَارُ ٱلْعَدَّادِ ٱلْفِينِيقِيِّ (أَبَقس/أَبَاق)، مِنْ أَجْلِ تَتَبُّعِ ٱلأَرْقَامِ أَوْ رَصْدِ مَا هُوَ بَاقٍ مِنَ ٱلأَرْقَامِ، نَظَرًا لِحَاجَةِ ٱلْفِينِيقِيِّينَ ٱلتِّجَارِيَّةِ وَلِاتِّسَاعِ حَجْمِ ٱلْمُجْتَمَعِ، بِحَيْثُ أَصْبَحَ مِنَ ٱلصَّعْبِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ ٱلْقِيَامَ ذِهْنِيًّا بِٱلْعَمَلِيَّاتِ ٱلْحِسَابِيَّةِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ عَشَرَاتُ ٱلأَوَانِي ٱلزُّجَاجِيَّةِ وَمِئَاتُ ٱلأَقْمِشَةِ ٱلأُرْجُوَانِيَّةِ وَمِئَاتُ ٱلْخَوَابِي ٱلْفِينِيقِيَّةِ مِنَ ٱلزَيْتِ وَٱلنَّبِيذِ، وَعَشَرَاتُ ٱلآلَافِ مِنْ أَشْوَالِ ٱلْقَمْحِ أَوِ ٱلآلَافُ مِنَ ٱلْعُقُودِ وَٱلْجَوَاهِرِ وَٱلتَّمَائِمِ ٱلْفِينِيقِيَّةِ ٱلْمُعَدَّة لِلْبَيْعِ لآلَافٍ مِنَ ٱلنَّاسِ فِي قُرًى فِينِيقِيَّةٍ أَوْ إِغْرِيقِيَّةٍ أَوْ مِصْرِيَّةٍ. فَٱبْتَكَرَ ٱلْفِينِيقِيُّونَ آلَةً تُشْبِهُ أَبْجَدِيَّتَهُمْ وَحِسَابَ ٱلْجُمَّلِ لَدَيْهِمْ، مَبْنِيَّةً عَلَى حِسَابِ أَوْ قِيَاسِ أَوْ عَدِّ أَوْ إِحْصَاءِ ٱلْوَحَدَاتِ units، وَحَيْثُ إِنَّ ٱلأَحْرُفَ ٱلتِّسْعَةَ ٱلأُوَلَ مِنَ ٱلأَبْجَدِيَّةِ ٱلْفِينِيقِيَّةِ تُمَثِّلُ ٱلصَّفَّ ٱلسُّفْلِيَّ مِنَ ٱلْعَدَّادِ ٱلْفِينِيقِيِّ، مُمَثِّلَةً ٱلْوَحَدَاتِ Units، وَٱلأَحْرُفُ ٱلتِّسْعَةُ بَعْدَ ٱلتِّسْعَةِ ٱلأُوَلِ مِنَ ٱلأَبْجَدِيَّةِ ٱلْفِينِيقِيَّةِ تُمَثِّلُ ٱلصَّفَ ٱلثَّانِي مِنَ ٱلْعَدَّادِ ٱلْفِينِيقِيِّ، مُمَثِّلَةً ٱلْعَشَرَاتِ Tens، وٱلأَحْرُفُ ٱلأَرْبَعَةُ ٱلْمُتَبَقِّيَةُ مِنَ ٱلأَبْجَدِيَّةِ ٱلْفِينِيقِيَّةِ تُمَثِّلُ ٱلصَّفَّ ٱلْعُلْوِيَّ مِنَ ٱلْعَدَّادِ ٱلْفِينِيقِيِّ، مُمَثِّلَةً فِئَةَ ٱلْمِئَاتِ Hundreds، وَفْقَ مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي ٱلْجَدْوَلِ ٱلتَّالِي (انظر الصورة المرفقة مع المقال)
وَٱللَّافِتُ أَنَّ كَلِمَةَ "أَبَقِس" Abacus، مُرَكَّبَّةٌ مِنْ كَلِمَتَيْ (أَب) وَ(قِس)، وَتَعْنِي «الْقِيَاس بِٱلْعَيْن» أَو «ٱلْعَدّ بِٱلْعَيْن»، حَيْثُ (أَب) تَعْنِي «الْعَيْن ٱلْيُسْرَى لإِلٰهِ ٱلشَّمْسِ لَدَى ٱلْفِينِيقِيِّينَ وَقُدَمَاءِ ٱلْمِصْرِيِّينَ»، ٱلْمَعْرُوفَةِ بِعَيْنِ حُورُس/حُرْصَاف/حَر وَٱلَّتِي تَرْمُزُ أَيْضًا إِلَى إِلٰهِ ٱلْكِتَابَةِ "طِط/قَدْمُوس"، مُرَمِّم عَيْنِ ٱلْقَمَر وَٱلَّذِي يُرْمَزُ إِلَيْهِ بِبُرْجِ ٱلْقَوْسِ، وَتُشِيرُ ٱلْعَيْنُ إِلَى ٱلْوَحْدَةِ unit، حَيْثُ إِنَّهُ فِي نِظَامِ عَدِّ مِصْرَ ٱلْقَدِيمَةِ وَفِينِيقيَا، اِسْتُخْدِمَتْ عَيْنُ ٱلْقَمَرِ ٱلْمَعْرُوفَةُ أَيْضًا بِعَيْنِ "حُورُس/حُرْصَاف" Horus لِتَمْثِيلِ ٱلْكُسُورِ، حَيْثُ جُزْءُ ٱلْعَيْنِ ٱلْيَسَارِيُّ يُسَاوِي 32/64=1/2، وَحَدَقَةُ ٱلْعَيْنِ تُسَاوِي 16/64=1/4، وَٱلْحَاجِبُ يُسَاوِي 8/64=1/8، وَٱلْجُزْءُ ٱلأَيْمَنُ مِنَ ٱلْعَيْنِ يُسَاوِي 4/64=1/16، وَٱلذَّيْلُ ٱلْمُقَوَّسُ لِلْعَيْنِ يُسَاوِي 2/64=1/32، وَدَمْعَةُ ٱلْعَيْنِ تُسَاوِي 1/64، وَحَيْثُ إِنَّ عَيْنَ حُورُس مُكْتَمِلَةً تُمَثِّلُ وَحْدَةً unit، وَٱللَّافِتُ أَنَّ كَلِمَةَ unit ٱلإِنْگلِيزِيَّةَ وَٱلَّتِي تَعْنِي (وَحْدَة) وَ(عَيِّنَة)، إِنَّمَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ كَلِمَةِ unité ٱلْفَرَنْسِيَّةِ ٱلْمُشْتَقَّةِ بِدَوْرِهَا مِنْ كَلِمَةِ unus ٱللَّاتِينِيَّةِ وَكَلِمَةِ ένας ٱلإِغْرِيقِيَّةِ، وَٱلْمُلَاحَظُ أَنَّ كُلَّ هٰذِهِ ٱلْكَلِمَاتِ ٱلَّتِي تُشِيرُ إِلَى ٱلْوَحْدَةِ، إِنَّمَا هِيَ لَفْظَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ لِكَلِمَةِ (عَيْن). أَمَّا لَفْظَتَا (قِس) وَ(قَس) فَتَعْنِيان «رَبَطَ وَعَقَدَ بِٱلْحَبْل» فِي ٱلْمِصْرِيَّةِ ٱلْقَدِيمَةِ، وَنَجِدُ هَاتَيْنِ ٱللَّفْظَتَيْنِ لَا تَزَالَانِ حَيَّتَيْنِ فِي ٱللُّغَاتِ ٱلْعَرَبِيَّةِ وَٱلْفَارِسِيَّةِ وَٱلتُّرْكِيَّةِ، مِنْ خِلَالِ كَلِمَتَيْ (قَاسَ) وَ(قِيَاس) وَمُشْتَقَّاتِهِمَا، حَيْثُ يُقَالُ فِي ٱللُّغَةِ ٱلْعَرَبِيَّةِ قَاسَ يَقِيسُ قَيْسًا وَقِيَاسًا، وَقَاسَ يَقُوسُ قَوْسًا ٱلشَّيْءَ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ بِهِ: قَدَّرَهُ عَلَى مِثَالِهِ، وَفِي ٱلْقَوْسِ (قِيَاس) إِشَارَةٌ إِلَى بُرْجِ ٱلْقَوْسِ وَإِلٰهِهِ "قَدْمُوس" مُرَمِّمِ عَيْنِ ٱلْقَمَرِ، عِلْمًا أَنَّ ٱسْمَ قَدْمُوس/قَدْمَس مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْ (قَد) وَ(مَس)، وَيَعْنِي «مِقْدَار ٱلْقَمَر» أَوْ «قِيَاس ٱلْقَمَر»، حَيْثُ (قَدّ) تَعنِي «مِقْدَار، قِيَاس، حَجْم» فِي ٱلْعَرَبِيَّةِ وَٱلْفَارِسِيَّةِ وَٱلتُّرْكِيَّةِ، وَ(قِدَّة) هِيَ «مِسْطَرَةٌ طَوِيلَةٌ يَخْتَبِرُ بِهَا ٱلْبَنَّاؤُونَ وَٱلنَّجَّارُونَ ٱلاِسْتِوَاءَ أَوِ ٱلطُّولَ»، أَمَّا (مَس) فَتَعْنِي «ٱلْقَمَر» فِي ٱلْفَارِسِيَّةِ وَٱلسَّنْسْكرِيتِيَّةِ، وَلَا رَيْبَ فِي ذٰلِكَ فَقَدْمُوسُ ٱلْفِينِيقِيُّ هُوَ بَانِي ٱلْمُدُن وَٱلأَبْجَدِيَّة، وَمُرَمِّمُ عَيْنِ ٱلْقَمَرِ، مُسْتَعِينًا بِقَوْسِهِ وَبِقِدَدِهِ.
وَٱللَّافِتُ أَيْضًا أَنَّنَا نَجِدُ فِي ٱلْفِينِيقِيَّةِ وَفِي ٱلْمِصْرِيَّةِ ٱلْقَدِيمَةِ كَلِمَةَ (حِسَاب/حِسْب/حَسَب) وَتَعْنِي «حَسَبَ، قَامَ بِعَمَلِيَّةٍ حِسَابِيَّةٍ، قَيَّمَ حِسَابِيًّا»، وَٱلَّتِي لَا تَزَالُ حَيَّةً وَمُسْتَخْدَمَةً فِي ٱللُّغَةِ ٱلْعَرَبِيَّةِ، عِلْمًا أَنَّ كَلِمَةَ (حِسَاب) مُرَكَّبَةٌ أَيْضًا مِنْ لَفْظَتَيْ (حِس) وَ(أَب)، حَيْثُ (أَب) تَعْنِي «عَيْن حُورُس» كَمَا سَبَقَ وَأَشَرْنَا، أَمَّا (حِس/حِسَ) فَتَعْنِي «رَبَطَ بِٱلْحَبْلِ أَوْ بِٱلْخَيْطِ»، وَفِي ذٰلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى آلِيَّةِ ٱلْحِسَابِ لَدَى ٱلْفِينِيقِيِّينَ، حَيْثُ كَانَ يَتِمُّ إِدْخَالُ ٱلْخَرْزَةِ/ٱلْعَيْن فِي ٱلْحَبْلِ وَرَبْطِهَا لِتُشَكِّلَ ٱلْخَرَزَاتُ/ٱلأَعْيُنُ سِلْسِلَةً أَوْ عِقْدًا، فَتُسْتَخْدَم هٰذِهِ ٱلأَعْيُنُ/ٱلْخَرْزَات لِلْعَدِّ، وَلَعَلَّ لَفْظَةَ (حِس) قَدْ تَحَوَّلَتْ إِلَى لَفْظَةِ (حَصِيَ/أَحْصَى) فِي ٱللُّغَةِ ٱلْعَرَبِيَّةِ وَٱلَّتِي تَعْنِي «عَدَّ، حَسَبَ» مُسْتَخْدِمًا ٱلْحَصَى أَوِ ٱلْخَرَزَات/ٱلأَعْيُن.

رحاب كمال الحلو

الإثنين 31 كانون الأوّل 2018