­

Notice: Undefined index: page in /home/lbnem/domains/monliban.org/public_html/monliban/ui/topNavigation.php on line 2

فلاسفة لبنان ضحيّةُ الثقافة العربيّة

د. مشير باسيل عون

يعلم أهلُ الفكر النيّر في لبنان وفي مجتمعات العالم العربيّ أنّي لستُ من الذين يناصرون الطائفيّة والمذهبيّة والانتمائيّة والفئويّة. فإنّي أنادي بكونيّة الإنسان وتأصّله الذاتيّ المنعتق من أيّ تسويغ عقائديّ. غير أنّ الظلم، حين يصيب الإنسان فردًا وجماعةً، يستفزّني أيّما استفزاز. أقول هذا لأنّي صُعقت صعقًا حين تناولت الكتاب الذي أصدره مركز دراسات الوحدة العربيّة وفيه ضمَّ شتيتَ الأبحاث التي أُنشِئت في ترصّد معالم الثقافة العربيّة في القرن العشرين. فالعنوان الأساسيّ الذي يحمله الكتاب الضخم (الثقافة العربيّة في القرن العشرين. حصيلة أوّليّة، مركز درسات الوحدة العربيّة، بيروت، 2011، 1455 ص) يوحي بأنّ الدراسة ستشمل جميع أهل الثقافة في المجتمعات العربيّة المعاصرة. وبما أنّ حقل الفلسفة يعنيني في المقام الأوّل، قرأت القسم المخصّص لمثل هذا الفكر (495-668)، فلم أعثر فيه على أيّ فيلسوف لبنانيّ معاصر، في حين أنّ الأقسام المرتبطة بسائر حقول الثقافة تُنصف الأدباء والكتّاب اللبنانيّين بعض الإنصاف. فذُهلتُ وأصابني حزنٌ عظيمٌ ورحتُ أفاتح شيوخ الفلسفة في لبنان، وفي مقدّمتهم بولس الخوري وناصيف نصّار، فإذا بهم يُصغون إلى خيبتي في صمت بليغ يعبّر عن ألم جميع الذين يشعرون أنّ نضالهم الفكريّ في معترك العالم العربيّ تهيمن عليه عواملُ العصبيّة القوميّة والطائفيّة والمذهبيّة. فكيف يُعقل أن يحشد مركزُ دراسات الوحدة العربيّة ما يقارب المئتي صفحة للحديث عن الفلسفة العربيّة في القرن العشرين من غير أن يُفرد بضعةً من الأبحاث الوجيزة عن فلاسفة لبنان المعاصرين، ومنهم على سبيل المثال شارل مالك ورنيه حبشي وكمال يوسف الحاج وفريد جبر وبولس الخوري وناصيف نصّار؟ وإنّي أذكر هذه الأسماء الستّة وفي يقيني أنّ ثمّة أسماء أخرى تستحقّ الذكر في مقام الفلسفة. ولكنيّ أكتفي بهؤلاء لأنّهم بنوا عمارةً فلسفيّة اتّسمت بالتماسك والتناسق والعمق والأصالة والإبداع.

ولقد اتّفق أنّ هؤلاء الفلاسفة اللبنانيّين المعاصرين هم من المسيحيّين الذين أهّلهم مقامُهم الوجوديّ التاريخيّ للتبحّر الرصين في معارف الثقافة العربيّة ومبادئها ومنهجيّاتها وآليّاتها وفي معارف الثقافة الغربيّة ومبادئها ومنهجيّاتها وآليّاتها. وبما أنّ الأقدار التاريخيّة انتدبتهم ليكونوا في مقام التوسّط بين ثقافة العرب وثقافة الغرب، أحاطوا بما لم تُحط به أكثرُ العرب من لطائف السؤال الوجوديّ الأشمل. فثاروا ثورتَهم الهادئة الرصينة على الجانب الظلاميّ في التراث العربيّ الإسلاميّ وافتضحوا فيه ذهنيّة اليقينيّات القاهرة والانغلاقات العقيمة. وليس يخفى على أحد من أهل الاطّلاع أنّ الفلاسفة اللبنانيّين المسيحيّين، بفضل طبيعة الاجتماع اللبنانيّ، هم من أكثر الفلاسفة العرب تحرّرًا وانعتاقًا حتّى من مقولات الأنظومة الدينيّة المسيحيّة عينها. فالفكر الحرّ ما جعل على هؤلاء الفلاسفة اللبنانيّن من حرَج. فخاضوا غمار التساؤل المربك حتّى أقصى الحدود. ومع أنّ منهجيّة السؤال النقديّ لا تنتمي في أصلها إلى ينابيع الثقافة العربيّة القديمة والوسيطيّة، إلاّ في حالات الاستثناء التي شهدتها عقلانيّاتٌ عربيّةٌ وسيطيّةٌ كانت تجرؤ على القول بأنّ الإنسان أشكل على الإنسان، فإنّ فلاسفة لبنان، وشأنهم في ذلك شأن أدباء النهضة العربيّة الأولى في لبنان، لا يسترهبون السؤال النقديّ الذي يخالف الأنظومات الدينيّة والعقائديّة والإيديولوجيّة بشكل صُراح.

لا أجزم في الأسباب التي غيّبت هؤلاء الفلاسفة اللبنانيّين المسيحيّين المعاصرين من سِفر الثقافة العربيّة. أفلأنّهم لبنانيّون؟ لستُ أدري. أفلأنّهم مسيحيّون؟ لستُ أعلم. أفلأنّهم أحرار الفكر؟ من الثابت في هذا كلّه أنّ فلاسفة لبنان المعاصرين هم من أهل الأقلّيّات في مجتمعات العالم العربيّ. ولكنّ اليقين الأصلب هو أنّ هؤلاء الفلاسفة أهملتهم الثقافةُ العربيّة في القرن العشرين لأنّهم يستحبّون الحرّيّةَ على الاستتباع المزيّف بادّعاءات الإمساك بالحقّ. وبما أنّ العناية الفكريّة تنصبّ على أهل الاقتدار السياسيّ والاقتصاديّ والديمغرافيّ، فإنّ الاعتناء بفكر هؤلاء الفلاسفة اللبنانيّين يقتصر على أهل بيتهم المستائين من تصلّبات العقل العربيّ وتشنّجاته المرَضيّة. ولستُ أغالي حين أقول إنّ أصحاب الفكر في لبنان يجاهدون حقَّ الجهاد في الفلسفة الرصينة الراقية المتطلّبة وهم متّكلون على أصالة الفعل الفلسفيّ ومعتصمون بكرامة الإنسان في فرديّته الخالصة. فلا يكترثون لإغراءات البلاط العربيّ ومباهج غواياته.

وإذا ما نظر المرء في طبيعة الفعل الفلسفيّ العربيّ المعاصر، وجد أنّه مقترنٌ أشدّ الاقتران بالذهنيّة العربيّة المهيمنة في المجتمعات العربيّة المعاصرة. فالعرب، في أصلهم، لا يُقبلون طوعًا إلى التفكّر النقديّ الذي يقتضيه الفعلُ الفلسفيّ. فهم إمّا غيبيّون ماورائيّون وثوقيّون، وإمّا نثريّون راكنون إلى وجدانيّاتهم الذاتيّة المتفلّتة من ضوابط الصياغة الفلسفيّة الصارمة. ولقد ندر فيهم من اعتصم بضرورات التفكّر الفلسفيّ الخالص، ولاسيّما في الأزمنة المعاصرة. ومع أنّ أزمة الفلسفة أضحت أزمةً كونيّةً في مطالع القرن الحادي والعشرين، بسببٍ من هيمنة التقنية المعاصرة وفاعليّة العلوم الوضعيّة ومزاحمة العلوم الإنسانيّة الأخرى لها، فإنّ أزمتها في العالم العربيّ تتفاقم حدّتُها من جرّاء الضعف البنيويّ الذي ينتاب الذهنيّة العربيّة على وجه العموم.

فالعرب لا يحترفون الفلسفة لأنّ الفلسفة تُجرّد الكيانَ الإنسانيّ من مستنداته الوجدانيّة وتشرّع له آفاق التساؤل النقديّ الحادّ. ومن فضائل هذا التساؤل أنّه يلزم العقلَ الإنسانيّ ضربين من النشاط العسير، ألا وهما التفكيك والترميم. فإذا بالفيلسوف لا يني في منازعة لذاته يهدم فيها ويبني حتّى تستقيم له منها إطلالةٌ مؤاتيةٌ لتفوّرات الوجود التاريخيّ المباغتة. ومن ثمّ، فإنّ الحديث عن الثقافة العربيّة في القرن العشرين أظهر ضآلة الزاد المعرفيّ الذي أكسبته الفلسفةُ العربيّةُ المعاصرةُ للإنسان العربيّ. فالمرء لا يعثر في القسم المعدّ للفلسفة العربيّة إلاّ على ندرة نادرة من الفلاسفة العرب المعاصرين الذين امتهنوا الفلسفة واعتمدوها منهجًا لحياتهم وفكرهم ومسلكهم يستعينون بها على تفكيك الذهنيّة العربيّة المتصلّبة والتصدّي للأنظومات الإيديولوجيّة والعقائديّة والسياسيّة التي تستعبد الإنسان العربيّ من بعد أن تخدّر فيه طاقات الانتفاض والنقد. وفي سياق هذا التقصير يندرج إهمالُ هؤلاء الفلاسفة اللبنانيّين المعاصرين الذين وقفوا أنفسَهم لخدمة الفكر الإنسانيّ الحرّ، وذلك على تباين مذاهبهم الفكريّة وتعارض مناهجهم المعرفيّة.

فالفلاسفة اللبنانيّون المعاصرون ينفردون عن غيرهم من الفلاسفة العرب المعاصرين، وجميع هؤلاء باتوا من القلّة القليلة، ينفردون عنهم بخصوصيّة وعيهم الذاتيّ المنطبع بمقولات الفكر المسيحيّ وانبثاثاته المتنوّعة في تضاعيف الفكر الغربيّ الحديث والمعاصر. وهم في ذلك ليس لهم من فضل على زملائهم الفلاسفة العرب المنتمين إلى أنظومة الفكر الإسلاميّ. فالعيب ليس في الانتماء، بل في مقاربة معاني الانتماء ومستنداته المعرفيّة ومستتلياته الوجوديّة. والمعلوم أنّ الفلسفة الغربيّة التي انبثقت من صميم الأنظومة الدينيّة المسيحيّة وما لبثت أن تصدّت لها وعاندتها ودعت إلى تجاوزها هي غير الفلسفة العربيّة التي انبثقت من صميم الأنظومة الدينيّة الإسلاميّة وما فتئت تداورها وتناورها في كثير من التحوّط والتأنّي والتريّث. وممّا لا شكّ فيه أنّ أسباب الاختلاف في مقاربة الأنظومة الدينيّة تقترن أوّلاً بطبيعة الاجتماع الإنسانيّ الذي نشأت فيه الفلسفةُ الغربيّة والفلسفةُ العربيّة، وتقترن ثانيًا بطبيعة الذهنيّة الثقافيّة السائدة في المجتمعات الغربيّة والمجتمعات العربيّة، وتقترن ثالثًا بطبيعة الأنظومة الدينيّة عينها التي يتصدّى لها الفكرُ الفلسفيّ الغربيّ والفكر الفلسفيّ العربيّ في وجوه شتّى. ولكلّ ضرب من ضروب الاقتران هذه مذهبٌ يؤيّده وتصوّرٌ يناصره.

بيد أنّ المقام هنا ليس للبحث في صحّة هذه المذاهب والتصوّرات. جلّ ما يعنيني في هذا الانتقاد المحض الذي أسوقه في غير هوادة ولا مساهلة، هو أن أستصرخ وعي العرب الحريصين على نهضة فكرهم الفلسفيّ حتّى يدركوا أنّ الفلسفة تستكره الظلم والإقصاء وتناصر التنوّع والتقابس. والمعلوم أنّ فلاسفة لبنان المعاصرين أسهموا إسهامًا رصينًا في إنهاض الفلسفة العربيّة المعاصرة على قواعد الاحتراف والرصانة والالتزام الوجوديّ الصادق. فلا يليق بنا أن نهملهم لأسباب تتّصل إمّا بخصوصيّة انتمائهم الطائفيّ وإمّا بهامشيّة جماعاتهم المنكفئة وإمّا بمرجعيّة فكرهم الحرّ الناقد. وكما أنّ الآداب العربيّة الحديثة لم تنهض إلاّ بفضل أدباء لبنان وشعرائه، كذلك لا تنهض الفلسفة العربيّة المعاصرة إلاّ بإسهام فلاسفة لبنان ومفكّريه. والجميع يعلم أنّ النهضة العربيّة الثانية قد نادى بها وأسّس لها وأنشأ فيها القولَ الفلسفيّ المحكم واحدٌ من هؤلاء الفلاسفة اللبنانيّين المعاصرين الذين وقفوا أنفسهم لاحتراف الفعل الفلسفيّ في تزهّد وجوديّ قلَّ نظيره. والإنصاف من أرقى فضائل الفلسفة.

د. مشير باسيل عون

الثلثاء 26 كانون الثاني 2016