­

Notice: Undefined index: page in /home/lbnem/domains/monliban.org/public_html/monliban/ui/topNavigation.php on line 2

وسط المجاعة

الوزير والنائب السابق بشارة مرهج

وسط المجاعة، كتاب مدهش ما أن تتصفح كلماته حتى يجذبك ويشدّك إليه بقوّة، وإن أرغمت على تركه فأنك تعود إليه بلهفةٍ لترى ماذا حلّ بالمرأة-الكاتبة التي أتى بها القدر من أقاصي الأرض إلى جبل لبنان في زمن الحرب والمحنة، في مرحلةٍ مرعبة من تاريخه هي فترة المجاعة والخوف التي عاشها الجبل وأهله إبان الحرب العالمية الأولى والتي لم تعقد أوزارها إلّا بعد أن نشرت العذاب والموت في ربوعه التي أجهز الجراد على كلّ عرقٍ أخضر فيها.
يؤرّخ الكتاب بأسلوبٍ واقعي مباشر، وساذج أحيانًا، لحقبةٍ عصيبة ما زالت أصداؤها حيّة في أذهاننا، وقد روى الكثير من حكاياتها جيل الأباء الذي لامس أحداثها أو اكتوى بتداعياتها. والكتاب الذي وضعته السيدة ميريام بيز Miriam Pease Bo Sauder النيوزيلاندية الإنكليزية، المتزوجة من الياس بو صادر، المغترب اللبناني القادم من بلدة الشوير، من أعمال جبل لبنان، هو سجل حيّ عن يوميات الحرب كما التقطتها عين ميريام في الجبل، الذي كان آنذاك بعيدًا عن ميادين الحرب المباشرة وقريبًا من لهيبها وتأثيراتها، ولاسيّما بعد أحكام الحصار عليه من قبل طرفي الصراع الأتراك والحلفاء مما تسبب بندرة المواد الغذائية وانتفاء الرعاية الصحية، وأدى تاليًا إلى حلول المجاعة وتفشّي الأوبئة بين الناس.
عبثية الموت
إلى ذلك يسلّط الكتاب الضوء بصورةٍ عفوية على طبيعة ونوعية العلاقات بين البشر زمن الحرب، حيث تتقلّص الخيارات أو تتلاشى، وحيث يجد المرء نفسه وجهًا لوجه أمام عبثية الموت، مضطرًا إلى قراراتٍ صعبة، لا بل مستحيلة، كأن يعطي كسرة الخبز الوحيدة لولد دون سواه من إخوته الذين يتضورون جوعًا. وكم من مرة تشعر أن الكاتبة تخط كلماتها من العالم الآخر، وقد بلغت معاناتها الحدّ الأقصى، ولاسيّما وأن مسؤوليتها كانت تكبر مع الأيام وتكبر معها المصائب، فلا تجد نفسها إلّا جاثية تصلّي وتضرع إلى المسيح وهي مصلوبة معه على خشبة الجحود والنكران.
والرائع في هذه المرأة، التي انتقلت من نيوزيلاندا إلى الشوير مع زوجها المريض وأطفالها، أنها كانت تملك الإرادة والرغبة، وسط أزمة يشتدّ عصفها، على تدوين ملاحظاتها اليومية أو الدورية رغم الإرهاق الشديد الذي كان يستبد بها، فضلًا عن المشاكل النفسية التي كانت تعتريها جراء السؤال الذي تضطر إليه لإطعام أطفالها، أو جراء المعاملة القاسية التي كانت تتعرض لها من قبل أفراد في عائلة زوجها. إن إصرارها على الكتابة، وسط الأهوال، يعكس إلى حدٍّ كبير شخصيتها القوية وتعلّقها بالإنجيل الذي يحضّ على الإيثار والتضحية بصمت، كما إلى تأثرها بالتربية البروتستانتية التي تشجّع على العمل والإنتاج والالتزام في أحلك الأوقات وأصعبها.
المرأة الاستثنائية
وما يثير الإعجاب في هذه المرأة الاستثنائية، هو أنها قلما ندبت حظها، رغم قسوة الظروف التي كانت تسحقها طيلة سنوات، فتجد نفسها تخوض كلّ يوم معارك شديدة الوطأه لتأمين الطعام والدواء لأطفالها وأحيانًا لأطفالٍ آخرين، متضامنة مع زوجها، الذي كان بدوره يسعى لتأمين ما تيسر، مقاومًا الأمراض التي كانت تنهش جسده والتي اضطرته أصلًا لمغادرة نيوزيلاندا.
كانت ميريام تخطّ أسمى الأفكار بأبسط الكلمات، تنهمر بعفوية على صفحات دفتر تدبرته لينبض بعد أجيال ويحكي قصّة محزنة دافئة مسرحها الشوير وبرمانا، وأبطالها ناس مزقّتهم الحرب بأنيابها، وكتبتها سيّدة أجنبية، شكّلت، بردود فعلها ومبادراتها، حالة معاكسة تمامًا للحرب والمشاعر والمواقف السلبية التي تستولدها بين الناس، فتعيد تأسيس العلاقات الاجتماعية على قاعدة الصراع أو تعمّق علاقات عداء قائمة أو تفجّر طاقات كامنة. فكلّما كانت تشتد عليها المأساة كان تصميمها يترسّخ، ونشاطها يتضاعف، مواجهتها بضراوة مستندة إلى إيمانها العميق، فلا تنكفئ إلّا للصلاة والدعاء، ولا تتراجع إلّا تهيؤًا لخطوات جديدة في طريقٍ يلفّه الغموض ويصاحبه الموت، وكأن قوّة الحياة فيها هي التي كانت تتكلم، وتتولى إزالة الأشواك، وفتح كوة الأمل كلّما طغى اليأس من كلّ جانب.
حيّة على طريق الموت
تقرأ كلماتها البسيطة المتمردة فتشعر أنها معلّقة بين الموت والحياة تعيش حياتها لحظة بعد لحظة أو بالأحرى تفقد حياتها لحظة بلحظة، فهي دائمًا حيّة على طريق الموت، ودائمًا مهدّدة بالموت، تتشبّث بالحياة. فعندما يحتاج الأمر تنهض مع الفجر لتمشي ساعات ست سيرًا على الأقدام وحدها أو برفقة امرأة أخرى باتجاه برمانا، حيث الإرسالية والمستشفى والأصدقاء. وعندما
تقفل راجعة متسلقة التل بعد آخر، لا يبدو عليها الخوف من عابر سبيل أو طريد جائع أو جندي فار، بل تمشي نحو بيتها واثقة الخطى تحمل على كتفها ما تيسّر، مصمّمة على الوصول وقد هدَّ جسمها التعب والإعياء.
من دون تساؤل أو ادعاء كانت تؤدّي عملها الذي يعجز عنه الأصحاء. أما الكتابة فكانت بالنسبة إليها، بعد الصلاة، الملجأ الوحيد لزيارات افتراضية للأهل والأصحاب في ما وراء البحار، أو استدعاء الذكريات، أو تسجيل الملاحظات والتساؤلات.
الكتاب شيّق وجذّاب ويعيد تصوير الواقع المنسي في زوايا الذاكرة. لكن أجمل ما فيه أنه، وهو يروي قصّة الموت، ينبض بالحياة في كلّ سطرٍ من سطوره.

الوزير والنائب السابق بشارة مرهج

الخميس 14 حزيران 2018