أمثولتَي ديكارت وسبينوزا
أمين الياس
قد يكون للفلاسفة وللنقاد الكثير من الانتقادات تجاه الفيلسوف الفرنسي رنيه ديكارت (1596-1650) غير أن كلّ من أرّخ فترة النهضة الأوروبيَّة يقرّ بأنّ ديكارت لا يمثّل فقط نقطة تحوّل في الفكر الفلسفي والإنساني بل هو أيضًا وباعتراف الجميع "أب الفلسفة المعاصرة". طبعًا لا يمكننا في مقالة صغيرة أن نلخّص فلسفة ديكارت بإجمالها، غير أنّه يمكننا أقلّه أنْ نفهم المنطلقات الأساسيَّة التي استند عليها ديكارت لبناء سيستامه الفكري والفلسفي؛ هذه المنطلقات بالذات التي يمكن لها أنْ تكون أمثولة لنا، نحن شعوب ومجتمعات ونخب الفضاء العربي، في كيفيَّة التصرّف مع التراث وتحكيم العقل والقدرة على التجديد وتطوير منظومة فكرنا.
مُنطلقان أساسيًّان كانا في نشأة بناء ديكارت الفلسفي: الأوَّل يقوم على فكرة أنَّنا لا يمكن أنْ نثق بالكتب القديمة (أي تلك الآتية من الأسلاف)، وثانٍ يقوم على أنَّ العقل هو الممرّ الأوحد للحصول على شيء من المعرفة. من هنا نفهم كيف أنّ "الشك بكلّ شيء" (One should doubt everything) والقطيعة مع الماضي هي أساس في منظومة ديكارت الفلسفيَّة. فعند ديكارت ليس هناك من مسلّمات آتية من القدماء أو من الأسلاف. بالعكس، يجب علينا أنْ لا نثق بأي شيء نُقل إلينا من عندهم. كيف نتعامل إذًا مع هذا التراث: بكلّ بساطة نضعه موضع الشك. عندها يصبح كلّ شيء خاضعًا لمقياس وحُكم العقل. فإنْ تطابق والعقل، يمكننا الوثوق به. وإنْ لم يتطابق معه، علينا أن نهمله بكلّ بساطة، لا بل علينا أن نُحدث قطيعة معه. فلا مقدّسات هنا ولا حتميَّات ولا مطلقات، بل جرأة في مقاربة كلّ مجالات التراث وفق معيار العقل والمنطق. وبالتالي على العقل أنْ يكون نشيطًا، لا بل أكثر من ذلك، لقد جعل ديكارت من التفكّر أو التعقّل صفة إنسانيَّة أساسيَّة نجد انعكاسها في مقولته "أنا أفكّر إذًا أنا موجود" (I think therefore I am). بعبارة أخرى ليس هناك مجال للكسل العقلي. وكلّ فرد أو جماعة أو شعب أو حضارة تقع في فخّ الكسل العقلي والركون المطلق لما أتاها من التراث والأسلاف تكون قد حكمت على نفسها ليس فقط بالخروج من حركة التاريخ بل أيضًا بالخروج من ديناميَّة الوجود بحدّ ذاته. فمن لا يفكّر ليس موجودًا. لقد ربط ديكارت، على مثال أفلاطون وأرسطو، العقل بالوجود (Reason and Being).
لماذا النظر إلى ديكارت وتجربته؟ أولًا، لأنّه بالتلاقح والتعلّم من الآخرين يكون إثراءً كبيرًا لنا؛ ثانيًا، لأنّ هناك الكثير من التجارب الإنسانيَّة التي يمكن أنْ تكون مفيدة لنا في كيفيَّة مقاربة أزماتنا ومحاولة إيجاد بعض الاجوبة عليها؛ ثالثًا، لأنَّ ديكارت فيلسوف أوروبي، وأوروبا هي جارة قريبة لنا لدينا الكثير من المشتركات معها، وما لها الأمر من تجارب مشتركة يمكن أنْ نتعلّم منها؛ ورابعًا، لأنّ أوروبا لم تتردّد في التعلّم من الحضارة الشرقيَّة والعربيَّة والإسلاميَّة يومًا، وقد كان لهذا التعلّم أثرًا كبيرًا في نهضتها وتطورّها، وبالتالي من الأحرى أنْ نقوم نحن أيضًا بفعل تواضع والقبول بضرورة التعلّم من أوروبا ومن تجاربها علّنا نجد في بعضًا من هذه الدروس بعض حلول وأجوبة. لقد كان لظهور ديكارت أثرًا كبيرًا في كلّ مفكّري عصر النهضة، ومن بينهم مثلًا الفيلسوف باروخ سبينوزا الذي، وهو المؤمن بالله، تجرَّا وقال يومًا أن الله لم يكن مصدر الوحي لما يُعرف بالكتب المقدّسة، إذ عند مقاربة هذه الكتب علينا أن نفهمها من ضمن ذهنية المرحلة التاريخية التي كتبت بها ونزع صفة الإطلاق عنها.
نحن في فضائنا العربي نعيش حالة من الصراع بين الحداثة والركون إلى التراث الديني منه والحضاري واللغوي وغيره. أزمتنا العميقة أننا نعيش، كما قال المفكّر الإسلامي جمال البنا في منظومة فكريَّة آتية من القرن العاشر ميلادي. مذذاك لم تتطوّر كثيرًا هذه المنظومة إلا عبر بعض النتعات التي تتمثّل في ابن رشد وابن خلدون وحركة النهضة أواسط القرن التاسع عشر والمنتصف الأول من القرن العشرين. بعدها دخلنا في حالة من الأصوليَّة الفكريَّة-الدينيَّة أوصلتنا إلى ظواهر دينيَّة واجتماعيَّة إسلاميَّة (بشقيها السني والشيعي) (وأحيانًا مسيحيّة) خطيرة قد تكون "منظمة القاعدة" وما تبعها من "نصرة" و"داعش" أهمّ تجلياتها. هذا ناهيك عن النموذج الإيديولوجي الصهيوني الخطير بما يحمله من عنصريَّة دينيَّة هدّامة لا نبرح نعاني منها أقلة منذ إعلان دولة إسرائيل في أيار 1948.
ما العمل؟ قد يكون في منطلقات ديكارت شيء من الإجابة. علينا أنْ نكون جريئين في مقارباتنا، وعلينا في لحظة ما أنْ نقرّ بأنَّه يجب إعادة النظر في كلّ تراثنا الديني والحضاري والشعبي، إلخ. علينا أنْ نضع كلّ شيء موضع الشك والتفكّر مهما كنَّا نعتبره مقدَّسًا. وعلينا أنْ نخرج من حالة كسلنا الفكري؛ هذا الكسل الذي أخرجنا ليس فقط من الساحة الحضاريَّة الإنسانيَّة بل حتى من الوجود الحقيقي. لقد قالها أدونيس يومًا: نحن بتنا عالة على العالم. فحتَّى متى نبقى في هذه الحالة؟ ألم يحن الوقت لنقطع مع بعض التراث القاتل المتخلّف الجامد؟ ألم يحن الوقت لنلد المزيد من علي عبد الرازق ومحمد أركون، وجمال البنا، ومحمد طه، وعبد الله العروي، وشارل مالك، ورنيه حبشي وناصيف نصّار، وجورج طرابيشي لنقوم بنبش تراثنا كلّه ونقده حبّة حبّة. ألم يحن الوقت لشكر الأسلاف على ما أورثونا إيَّاه والبدء بإنتاج فكر جديد وسيستام جديد؟ ألم يحن الوقت لظهور سبينوزا ضمن فضاءنا تكون له الجرأة بضرورة مقاربة التراث المقدّس بذهنيّة عقلانيَّة تاريخيَّة علميَّة تنزع عنها صفة القداسة وتحاول أنْ تقرأها وتفهمها وفق الذهنيَّة التي وُضعت فيها آنذاك؟ فللنتظر ولنر.
أمين الياس
السبت 12 أيار 2018