المقعد التائه
رشيد درباس
نفى لي الصديق غسّان حجّار شبهة احتساب مثل هذا المقال ضمن الدعاية الانتخابية، فاستجبت لنزعة تتملكني في مثل هذه المناسبات، وهي الحديث عن المقعد الماروني في طرابلس الذي اعْتُمِدَ في قانون 1992، وما زال محفوظًا للمدينة رغم كلّ المحاولات التي لم تهدأ، من أجل نقله إلى مكان آخر، بحجة قلة عدد الناخبين الموارنة في هذه الدائرة،؛ ويعود الفضل ببقاء هذا المقعد لموقف حازم من كلّ من دولة الرئيس برّي ودولة الرئيس الحريري، وتشبّث فاعليات طرابلس به، وعلى رأسهم صاحب السماحة المفتي وسيادة المطران أبو جودة راعي الأبرشية. ومما نذكره، أنّ حججًا كثيرة بَرَّرتْ إضافة هذا المقعد لطرابلس، منها أنّها مقر أهم أبرشية مارونية في الشمال، بما لها من تاريخ عريق، وما كان للمرحوم المطران أنطون عيد من هيبة ونفوذ وشعبية لدى الطوائف كلّها.
وقيل فيما قيل، إنّ الفيحاء عاصمة الشمال، وسُكْنى لعائلات مارونية كثيرة، على رأسها زعامات زغرتا وبشري وعكّار والكورة، وأنّ وجود تَنَوُّعٍ في تمثيلها بين سُنَّتها والأرثوذكس والعلويين والموارنة يؤكد طابعها الوطني اللبناني الذي يتخطَّى التقوقع والانغلاق، وينفي ما حاولوا أنّ يلصقوا بها من صفات التزمت والأصولية.
ولقد أثبت جان عبيد صحة هذا القول، بما ناله منفردًا من أصوات تخطت الثلاثين ألفاً فيما اللائحة التي ضمت النائب سامر سعادة تألّفت من أقوى الأقطاب، لأن الناخبين الذين صبّوا لمصلحته كانت أكثريتهم الساحقة من مؤيدي تلك اللائحة، ولكنهم رأوا فيه وجهًا لا غنىً عن وجوده في الندوة النيابية.
هذا يعيدني إلى أنّ الحضرة السياسية الطرابلسية واللبنانية استحسنت منذ البدء، أنّ يكون جان عبيد مرشّح التزكية لما له في نفوس أهله من محبة، وعقولهم من تقدير، وعواطفهم من عرفان لرجل لم يقف في وجهه حاجز أو متراس أو قذيفة، وهو يسعى بين المتحاربين للإفراج عن رهائن لا يعرفهم، مستغلًا نفوذه وحجته، وتورياته الضاحكة، وحزمه عند اللزوم، ليطفىء نارًا من هنا، أو يسدَّ بابًا بوجه الريح، فإذا به في مسعاه للإفراج عن المخطوفين، يُخْطَفُ مِرارًا، من غير أن تَفْتُرَ له عزيمة، أو تبرد له هِمَّة.
إنه ابن "عَلْما" من أعمال قضاء زغرتا، مناضل طرابلسي أصيل، من سكان حي التربيعة الشعبي، الطالب الذي رَدُّوه عن كلّ المدارس التي كان يتزعم فيها المظاهرات نصرة للقضايا العربية، فراح يُحْرِزُ من خارج تلك المدارس تحصيلًا علميًا يفيض عما يجري تلقينه على السبّورة، وذلك من خلال ثقافة تضيق عنها المناهج، التي بذل وسعه، عندما كان وزيرًا للتربية من أجل تحديثها.
تبارزت الأطراف المتحاربة بالسلاح والتجييش الطائفي، وكان هو يبارز بآيات القرآن والإنجيل والحديث الشريف وأشعار أبي الطيب وخطب أبي بكر والإمام علي.
لما بدأ نجم حزب البعث العربي الاشتراكي يبزغ في سماء المدينة، ظن الناس أنّه من مؤسّسيه لما كان يكنُّه له قادته من احترام لشخصه ورأيه، ولكنه في الحقيقة لم يدخل الحزب يومًا، فلمَّا حصلت الانشقاقات، اختلف "الرفاق" على كلّ شيء إلّا على محبتهم لهذا المناضل الرصين، والناصح الأمين، الذي كان صديقًا لميشال عفلق وصلاح البيطار والدكتور عبدالمجيد الرافعي، مثلما كان لزمن طويل محط تقدير الرئيس حافظ الأسد وعبدالحليم خدّام وحكمت الشهابي، وكان كذلك أخًا حميمًا للرئيس سليمان فرنجية والشهيد رشيد كرامي، وخليل فكر وسياسة للشهيد كمال جنبلاط، ونجيَّ لباقة واتزان لتقي بك، ومؤمنًا ومبشّرًا بنهج الرئيس اللواء فؤاد شهاب، ووزيرًا مقرباً من الشهيد رفيق الحريري ومرشّحه للرئاسة، وفق ما أسَرَّهُ لي في العام 2000.
خلاصة ما أود الوصول إليه أنّه حتى ولو كان الغرض من إلحاق المقعد الماروني بطرابلس تأمين وجود برلماني مرموق لجان عبيد، لكان غرضًا حميدًا يستحق أنّ نستنبط له المبررات الآنف ذكرها، وذلك كي تبقى للحياة السياسية اللبنانية مستديرة ينتظم حولها السير بيسر وسلاسة، بدلًا من المتاريس والحواجز.
ولعل إشغاله لوزارة الخارجية من غير سابق خبرة، وفي ظل أقسى الظروف الدولية، كان أسطع دليل على أنّه حكيم وزراء الخارجية العرب، كما وصفه المرحوم سعود الفيصل، لأنّه مارس الدبلوماسية وفق مفهومها كمساحة يلتقي فيها الخصوم، لا ساحة يتشاتم فيها الحلفاء.
بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، استطاع جان عبيد وبهية الحريري في خطابيهما في البرلمان الارتفاع من قاع المأساة إلى ذورة النضج، ولكن انتخابات 2005 استبعدته في غمرة انقسام عميق لا يستطيع بحكم تاريخه وتكوينه الانتماء اليه، أما في العام 2009، فقد قُطِعَتْ له وعودٌ علنية عريضة وطويلة، تنكروا لها برفَّة عين، فأثبتَ، بجرأةِ الترشُّحِ منفردًا، جدارةً في الشجاعة ورباطة الجأش والخطاب المتصالح، وحصد الأصوات.
في ظلِّ القوانين القديمة، كانت المقاعد تُقَدَّمُ على شكل هدايا من غير حاجة للجهد والعرق، أما في قانون "الصوت التفضيلي" -الذي لا أكُنُّ له أية مودَّة- فإنّ المقاعد باتت تائهة بين الأنانيات بعكس ما ينسب له دعاته من "نسبية" وفق الاتجاهات السياسية المزعومة، إذ غالبا ما يُحْرِجُ المرشح "المُفَضَّلُ" مؤيديه ومحبيه، بالانخراط في قائمة قد لا تمثّل طموحهم الوطني أو اتجاههم السياسي فيصح قول المتنبي:
وقَدْ يَتَزَيّا بالهَوَى غَيرُ أهْلِهِ
ويَسْتَصحِبُ الإنسانُ مَنْ لا يُلائمُهْ
ولعلَّ المقعد التائه الذي يستحق هذا الوصف بجدارة، هو مقعد طرابلس الماروني لكثرة ما تعرض له من تبخيس، وتغييب لفكرة إنشائه، ولكثرة ما خَطَبَ وُدَّه "التائهون" من كل صوب.
يقول الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي:
أَرَأَيْتَ إلى ورقٍ غادرَ شَجَرهْ
هلْ يَحْيا في شَجَرٍ آخرْ؟
أرأيتَ إلى امْرَأةٍ حُرَّهْ
هَلْ تَهْوَى إلَّا صاحبَها الأوَّل؟
الوزير رشيد درباس
الخميس 15 شباط 2018