ما هو شكل دولة لبنان الفدرالية؟
د. زكريا حمودان
أتت سنوات الصراع الدموية على لبنان لترفع من منسوب الشرخ الداخلي بين أبناء البيت الواحد، الأمر الذي دفع ببعض اللبنانيين في تلك الحقبة إلى الخروج بالكثير من الطروحات التي تتناسب وحقبة الانشراخ العريض الذي أحدثته تلك الحرب العبثية. ولكن الجدير بالذكر بأنَّ جميع هذه الطروحات لم تكن يومًا جدية حتى يومنا هذا، حتى في عزِّ الانقسام لم يكن هناك أي مطلب سياسي حقيقي لتقسيم لبنان، وكانت طروحات التقسيم محصورة على مستوى المحازبين أو المفكرين السياسيين ليس أكثر. كذلك يجب التذكير بأنَّ الرئيس بشير جميِّل أتى رئيسًا لكل اللبنانيين، ولم يذكر يومًا بأنه مع التقسيم أو تجزيء الوطن بقعًا طائفية، فهو الحريص على كل مسيحي لبناني من أقصى الوطن إلى أقصاه، كيف له أن يطلب ذلك!
هذا في الشكل، أما في المضمون فالأمور أكثر وضوحًا وعقلانية، فالسؤال الأبسط للعموم هو: ما هو شكل دولة لبنان الفدرالية؟
ينادي البعض كلما سنحت لهم الفرصة بالفدرالية دون أن يقدموا أكثر من سرد تاريخي يحكي قصة لبنان التي نعرفها جميعنا. لذلك هناك أسئلة تطرح وأجوبة تقدم ردًا على جميع من يعتقد بأنَّ لبنان قابل للتقسيم يومًا.
جغرافيًا: تتداخل المناطق اللبنانية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب بنسبٍ متفاوتة تصل إلى قرابة ال٣٠٪ في بعض المناطق، سواءً أخذنا معيار الأقضية أو المحافظات بجميع أشكالها المطروحة أو التي يمكن طرحها. فيسألني يومًا أحد الأصدقاء من الطائفة المسيحية (ويسكن في عكار) حول مصيرهم في حال تم يومًا ما قيام دولة فدرالية في لبنان، ثم استطرد سائلًا عن سكان المنية والضنية وطرابلس، وشيعة جبيل وسنة الكورة وشيعة البترون، كما هو حال أقضية جبل لبنان ومختلف أقضية الجنوب، وسنة البقاع سكان دير الأحمر ومحيطها، وكل لبنان!!! هنا أسقطنا معادلة التقسيم الجغرافي على مستوى الأقضية والمحافظات، فما كان مني إلا أن أمازحه قائلًا: "بكرا بيطلع مين يقول بدنا نقسمها شوارع وأحياء طائفية".
بعد إسقاطنا لمعادلة الجغرافيا، لنتناول الطرح اقتصاديًا. تتنوع بيئة لبنان وخصائص مناطقه الاقتصادية بين ساحلية تجارية وجبلية زراعية، وبعض المعالم السياحية التي لا يتوانى السياسيون بضربها من خلال ضربهم للاستقرار. أما في الاقتصاد فالمعادلة هي التالية: يجب أن تتمتع كل ولاية ضمن الدولة الفدرالية باستقرار اقتصادي يؤمن لها قوت يومها، وذلك عبر المرافق الحيوية والحركة الاقتصادية التي قد تنتج عن الحركة التجارية والصناعية التي تتحرك بحسب المرافق الحيوية في كل ولاية. هنا يأتي السؤال إذًا عن طريقة خلق معادلة اقتصادية عادلة بين جميع الولايات المزعم إنشاؤها، وكيفية خلق عدالة حقيقية في تقسيم الثروات بين مناطق ساحلية مفتوحة على العالم من خلال المرافئ والمطار الدولي، ومناطق داخلية مصيرها معلق برحمة السماء والطبيعة التي تارةً تعطي وطورًا تضرب المحاصيل فتردها هباءً منثورًا بلمح البصر!!! إذًا لا تستطيع الفدرالية تأمين عدالة اقتصادية. بل أكثر من ذلك، تقوم الفدرالية بتوسيع الشرخ الاقتصادي بين المناطق فتخلق مناطق غنية تواجهها مناطق فقيرة، مما بدوره سيؤدي إلى هجرات داخلية في ظل نظام مطروح طائفيًا (الفدرالية) الأمر الذي قد يسبب صدامات مذهبية تعيدنا سنوات إلى الوراء.
اجتماعيًا: عاش اللبنانيون معًا مسلمين ومسيحيين في مختلف المناطق وبدون أن مشاكل تذكر (باستثناء ما خلقته الصراعات السياسية وحروب الآخرين على أرضنا). فإذا أردنا اليوم طرح تمييز بين الجار وجاره بحسب طائفته، سنقتل هذا الرابط الأساسي بين اللبنانيين وسينظر كل منهم إلى الآخر نظرة الحاقد على أخيه. من هنا تُدحض فرضية تقسيم الوطن بُقعًا طائفية صغيرة ومبعثرة، مشتتة وغير متماسكة، طائفية وغير وطنية. من هنا، لا تتناسب الفدرالية الطائفية من طبيعة لبنان الاجتماعية المتداخلة بأي شكلٍ من الأشكال.
بعد تناولنا لكلٍ من الجغرافيا، الاقتصاد والحياة الاجتماعية بشكلٍ منفصل، لنحاول تناولهم بشكلٍ متصل. تأتي الفدرالية لتطالب بتقسيم جغرافي منطلقةً من خلفية طائفية، في مناطق غير متساوية اقتصاديًا على مستوى الخصائص، مما سيفرض حياةً اجتماعية غير متوازنة وحروبًا جديدة سواءً مباشرة أو غير مباشرة. هذا هو شكل الدولة الفدرالية في لبنان، وهذه خصائصها الجغرافية، الاقتصادية والاجتماعية.
د. زكريا حمودان
الجمعة 18 كانون الأول