في الشعر العربيّ الهنديّ
أحمد فرحات*
في العام 636 للميلاد دخل العرب شبه القارّة الهنديّة، وعملوا على تعلّم لغات أهلها. كما قاموا بنشر العربيّة، لغة القرآن الكريم والتراث العربيّ الإسلاميّ، فأقبل يتضلّع منها عددٌ كبيرٌ من أهل الهند، حتّى ظَهَرَ فيهم نوابغ في التأليف على أنواعه، وفي نَظْم الشعر، وسَرْد القصص والحكايات.
وعلى الرّغم من ذلك، لم تتوصّل العربيّة لاحقاً لتكون لغة رسميّة في الهند كالإنكليزية مثلاً، وذلك بسبب مُعارَضة كثرة كاثرة من غير المسلمين لها، فضلاً عن عدم اكتراث الدول العربيّة لاحقاً بهذا الشأن الثقافيّ الحيويّ الخطير.
نستدرك فنقول، إنّ ظاهرة قيام شعراء هنود بالعربيّة خلال القرون غير القليلة الماضية تعاظمت وقويت، حتّى بلغ تعداد الشعراء بالمئات، درج معظمهم على تقليد أساليب الشعر العربي الكلاسيكي، منذ الجاهليّة مروراً بصدر الإسلام والعصر الأموي والعصر العبّاسي، فضلاً عن الأندلسي وصولاً إلى زمننا الراهن. وتذهب بعض النظريّات الأدبيّة المُعايِنة للشعر العربي/ الهندي إلى أنّه لو تسنّى لشعرائه إثراء نصوصهم بالأسئلة الجديدة والأفكار الفلسفية والميثولوجية والأسطورية الهندية القديمة، لكانت النتائج الإبداعية من وراء هذا الشعر أعمق دلالة وأقوى سداداً، ولاستفادت المكتبة الأدبيّة العربيّة كثيراً، وأُضيف إليها باب إبداعي جديد مهم عنوانه: "مدرسة الشعر العربيّ الهنديّة".
وعلى الرّغم من أهمّية مثل هذه النظريّة، إلّا أنّ بعض الشعر العربي الهندي الذي تحصّلنا عليه، يُفصح بالفعل عن تجارب إبداعية راقية، حملت سمات ومرموزات كثيرة من ثقافات أهل تلك البلاد ذات التراكم الحضاري الهائل.
مسعود بن سعد بن سلمان اللّاهوري (1048 – 1121)، هو أوّل شاعر هندي كتب الشعر بالعربيّة؛ وكان أميراً من أمراء الدولة الغزنوية؛ وأشعاره إجمالاً تتميّز بتلكم الطراوة والشفافيّة الملوّنة التي تذكّرنا بشعر شعراء الأندلس، وإن على شيء من إيقاعات شعراء الجاهليّة… ومن أبياته:
وليلٍ كأنّ الشمسَ ضلّتْ ممرَّها
وليسَ لها نحوَ المشارِقِ مَرجعُ
نظرتُ إليهِ والظلامُ كأنّهُ
على العينِ غِربانٌ من الجوعِ وقَعُ
فقلتُ لقلبي طالَ ليلي وليسَ فِيَّ
من الهمِّ مَنْجاةٌ وفي الصَّبرِ مَفزَعُ
أرى ذَنَبُ السِّرحانِ في الجوّ طالعاً
فهلْ مُمكنٌ أنَّ الغزالةَ تَطلَعُ؟
وبرز على ساح الشعر العربي الهندي شعراء كبار من أمثال مولانا زين الدّين المالاباري، ومولانا عبد العزيز الكالكوتي، وغلام آزاد البلجرمي (1704 – 1786)، الذي يعتبر الأهمّ والأميز بين شعراء الهند بالعربيّة قاطبة؛ وله سبعة دواوين شعرية بين الصغيرة والكبيرة سمّاها بـ"السيّارات السبع". وهو برأي الباحث والمؤرّخ الهندي من أصل عربي عبد الحيّ الحسني (1869 – 1923) أوّل من تغنّى في العربيّة بأمجاد الوطن الهندي، وابتدع في الشعر العربي الهندي أشياء كثيرة مثل المردف والمستزاد والمزدوجة وغيرها من الأنواع الشعرية. كما ألبس بعض الأفكار والأخيلة الهندية خلعة عربية، وعارض القدماء في الوصف والتشبيه، ووقف في قصائده كوقوفهم على الأطلال ورسم الديار.
وقد لُقِّب الشاعر غلام آزاد البلجرامي بـ"حسّان الهند"، لأنّه مال في قصائده نحو الروحانيّات الإسلامية، مادحاً الرسول العربي الكريم ومسترفداً مقتضيات دعوة الدّين الحنيف بالأوج من تنويعات آفاقها. وكانت نفسه مولعة بكلّ ما لشخص الرسول من سمات النبل والرشاد والهداية. وقد زادت أبياته الشعرية في مجموع قصائده على أحد عشر ألفاً، عالج فيها، فضلاً عن أغراض دينية عدّة، المدح والغزل والرثاء والفخر والوصف والعتاب…إلخ، ومن أشعاره نقتطف هذه الأبيات المدحيّة في الرسول، والتي تبدأ بأمداء غزليّة ذات طوبى جاذبة:
لمحتْ إليَّ بعينِها الكَحلاءِ
فمَرِضْتُ طولَ العُمرِ بالسَّوداءِ
ولقد ثَمِلتُ بلحظةٍ سَمَحَتْ لها
من نَرجِسِ ريّانَ بالصَّهباءِ
وعلمتُ آراءَ العليلِ صحيحةً
لمّا رأيتُ مِنَ العليلِ شفائي
أسَرَتْ قلوبَ العاشقينَ فطوّقَتْ
أجيادَها بعيونِها الكَحلاءِ
فأتيتُ بالقلبِ السليمِ مُنادِياً
غَوْثَ الورى في شِدّةٍ ورَخاءِ
برهانُ ربِّ العالمينَ حبيبُه
في الأمّةِ الأميّةِ العَرباءِ
مِنْ مَعشرِ الإنسانِ إلّا أَنّهُ
إنسانُ عَينِ المجدِ والعَلْياءِ
ثمّ هناك الشاعر مولانا أنور شاه الكشميري (1875 – 1933) والشاعر المعلِّم عبد الحميد الفراهي (1864 – 1930) الذي تذكّرنا قصائده بقصائد أحمد شوقي؛ ولعلّ مردّ ذلك، إعجاب الشاعر بإيقاعات أمير الشعراء المميّزة، وعاطفته وأسلوب تناوله للموضوعات… وقصائد المُعلّم الفراهي ليست مغلوبة بالمباشرة وأسلوب الوعظ، وإن كانت قوافيه من ذلك الصنف الطيّع الذلول.
على أنّ الشاعر الفراهي، ومن جهة أخرى، كان يقرأ بإعجاب دواوين شعراء الجاهلية، ويتوقّف كثيراً عند المعلّقات، فيعتبرها ملاحم شعرية سطّرها العرب، ولم يجر الاهتمام بها من المعنيّين بالتراث الشعري العربي لاحقاً، وخصوصاً لجهة مسرحتها وتقديمها كسبائك إبداعية تحفظها الأجيال، ليس من خلال الكُتب فقط، وإنّما من خلال ثقافة التداول المسرحي الفنّي، الغنيّة بالحركة والصوت والموسيقى، فما تقدّمه الخشبة يُمكن أن يرسخ في الذهن، أحياناً، أكثر من المسطور في الكِتاب عينه.
بالإضافة إلى تضلّعه من العربية ومن العلوم الدينية والفقهية والتاريخية، كان الشاعر المُعلّم عبد الحميد الفراهي يميل أيضاً إلى الفلسفة والاستفادة من جدل أسئلتها العميقة، القديمة منها والجديدة. وقد ساعده في ذلك تخصّصه باللّغة الإنكليزية وآدابها؛ فكان يقرأ نصوص الفلسفة الأوروبية ومستجدّاتها النقدية على اختلافها بلغة شكسبير، ما هيّأ له ذلك منصّة ثقافيّة رفعته وعزّزت من سيره، بنفسه وبمجتمعه، نحو فضاء الحداثة والتحديث، فضلاً عن اندغامه الجدّي بمشاريع الإصلاح الديني والسياسي، وإعادة قراءة التراث الديني والأدبي العربي – الإسلامي بعقلٍ جديد، يخدم التراث نفسه والإنسان المعنيّ بهذا التراث.
وفي المناسبة، لا بدّ من التنويه بأنّ الشاعر الفراهي كان قد تَرجَم أفكاره الإصلاحية، ليس عبر مؤلّفاته وتنظيراته ومواقفه الفكرية فقط، وإنّما أيضاً من خلال تجاربه على الأرض، والمتمثّلة هذه المرّة في تأسيسه مدرسة عربيّة دينية قرب قريته في الهند سمّاها "مدرسة الإصلاح"، وقد جعل التعليم فيها مغايراً على نحو كبير، بحيويّته واستيعابه للبرامج المقرَّرة. كما عزّز فيها تعليم العربيّة الفصحى باختياره الأساتذة المُناسبين لهذه المَهمّة؛ وكان هو نفسه يقرأ ويكتب بلغة عربيّة فصيحة، رشيقة وناصعة البيان، وقد كَتَب أهمّ كُتبه باللّغة العربيّة وآثرها بالتالي، حتّى على لغته الأمّ الأردية.. أمّا لماذا؟ " فلأنّني أردت لكُتبي الخلود".
الكشميري.. نادرة عصره
أمّا الشاعر مولانا أنور شاه الكشميري، والملقّب بـ"نادرة عصره"، فقد كان مسحوراً بالشعر العربي الكلاسيكي في مراحله كافّة، ويَعتبر هذا الشعر مُقدّماً على غيره من شعر الأقوام كلّها، شرقاً وغرباً، وأنّه هو محظوظ جدّاً، لأنّه يكتب الشعر بلغة الضادّ، التي هي "لغة غنيّة بالمفردات والألفاظ المشحونة بالشعرية حرفاً.. حرفاً وعَصَباً.. عَصَباً" كما كان يردّد.
وأكثر ما يلفته من الشعراء العرب القدامى، امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، والنابغة الذبياني، والمتنبّي، وأبو تمّام، وأبو نوّاس، وبشّار بن برد. كما كان يأخذ بلبّه، وعلى نحو فائق الخصوصية، الشاعر ابن الرومي، إذ يعتبره من طبقة المتنبّي وبشّار وسائر من سلف ذكرهم من شعراء عرب كبار. رأى في ابن الرومي شاعراً حميماً وحسيّاَ في الصميم. كما رآه شاعراً غير مملّ في كلّ ما يبوح به أو يشكو، ويجعل قرّاء شعره، بالضرورة، يتعاطفون معه في كلّ ما كان يواجهه من خيبات أمل ومآس متكرّرة، إنْ على صعيد العمل ككاتبٍ في دواوين الحكّام والولايات، أو على صعيد فقده لـ"واسطة عقده" ابنه محمّد… مثالاً لا حصراً.
وأكثر ما يستوقف في الشاعر أنور شاه الكشميري بشأن ابن الرومي، هو توكيده بأنّه كان ينبغي على النقّاد العرب والمسلمين القدامى، ومعهم الرواة الثقاة للشعر، من مجايليه، ألّا يجعلوه يشعر بالغربة في قلب مجتمعه العربي والإسلامي، ويعود بالتالي إلى استذكار جذوره الروميّة، وذلك من خلال قوله:
نحنُ بنو اليونانِ قومٌ لنا حِجىً
ومَجْدٌ وعيدانٌ صلّابُ المعاجمِ
من جهة أخرى، كان مولانا أنور شاه الكشميري يطرب طرباً شديداً لأبي عثمان الجاحظ ومداراته الفكريّة والأدبيّة والعلميّة، وخصوصاً في كتبه "البيان والتبيين" و"كِتاب الحيوان" و"البخلاء"، وكان يرى في الكِتاب الأخير "واحداً من أبرز الكُتب العلميّة والأدبيّة والفكاهيّة الساخرة في الدنيا دفعة واحدة".
وفي ما خصّ شعر مولانا الكشميري، فإنّ قصيدته على العموم تتميّز بالوضوح والطواعية والبساطة والواقعية الآسرة. نقرأ في قصيدة له بعنوان: "مدار الاستقامة" يمدح فيه شيخه رشيد أحمد الكنكوهي:
إمامُ قُدوةِ عدلٍ أمينُ
مَكارمُ ساعدَتْ كَرمَ النُّجَارِ
فقيهٌ حافظٌ علمَ شهيرٍ
كصبحٍ مستنيرٍ هديٍ ساري
إليهِ المنتهى حِفظاً وفِقْهاً
وأضحى في الرِّوايةِ كالمدارِ
ففي التَّحديثِ رحلةُ كُلِّ راوٍ
وفي الأَحبارِ عُمدَةُ كُلِّ قاري
فقيهُ النَّفسِ مجتهدٌ مطاعٌ
وكَوثَرُ عِلمِه بالخيرِ جاري
يقومُ لشكرِهِ آثارُه في
مَدارسَ أو مَساجِدَ كالدراري
متى ما جادَ جودٌ قام شُكراً
لَهُ العَزْماتُ من بادٍ وقارٍ
لقد نَفَعَ الورى شرقاً وغرباً
وأشرقَ نورُه عِندَ اعتِكارِ
ودَارَ مَعَ استقامتِهِ مداراً
أصيلَ الأصلِ محميَّ الذِّمارِ
مثل هذه الأسماء أو التجارب الشعريّة الهنديّة التي كانت تكتب الشعر العربي في الهند، لم تُدرس الدراسة المتأنّية الكافية، وخصوصاً وفق مناهج نقدية جديدة تترصّد المعاني العميقة واتّساع مدى الألفاظ للرموز والدلائل المُبتكرة لديها؛ وبالتالي فإنّ من الضروري ربط ما تناثر من إبداعات هذه التجارب وما تبعثر، للوصول إلى تقديم رؤية جديدة ومتماسكة لهذه "الحضارة الشعريّة العربيّة" على مستوى بلاد الهند، وربّما العالَم بأسره.
أحمد فرحات/*مؤسّسة الفكر العربيّ-أفق
الثلثاء 31 تشرين الأول 2017