صفحات من ملف الحرب الروسيّة على الإرهاب (6) – المغامرة التركيّة!
جمال دملج
بغضّ النظر عمّا إذا كانت عمليّة إسقاط طائرة الـ "سوخوي" الروسيّة قرب الحدود التركيّة – السوريّة قد شكّلت هديّة مجّانيّة قدّمتها أنقرة لتنظيم "داعش" أم لا، فإنّ السؤال الأهمّ الذي طرح نفسه بشدّة في خضمّ معمعة تداعيات هذه المغامرة التي تنذر بعواقب وخيمة دون أدنى شكّ هو: إلى أيّ مدى يا ترى يمكن القول إنّ الرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان نجح في قلب معادلة الحرب الروسيّة على الإرهاب في سوريا رأسًا على عقب، أو على الأقلّ، في إحداث اختراق لهذه المعادلة، من خلال هذه العمليّة – المغامرة؟
ما يبدو واضحًا هو أنّ أردوغان أنجز حتّى الآن ما يمكن تسميته بـ "الخطوة الأولى والأصعب" على طريق تنفيذ مقاولة أميركيّة – أطلسيّة – خليجيّة، لا تقتصر أهدافها على إرباك القيادة الروسيّة التي حقّقت عمليّاتها العسكريّة ضدّ الإرهاب الداعشيّ التكفيريّ في غضون أقلّ من شهر واحد ما عجز "الغربيّون" عن تحقيقه على مدى أربعة عشر شهرًا، بل تصل وفقًا للسيناريو الموضوع لها إلى ما هو أبعد وأخطر من ذلك بكثير، إذا ما قُدِّر لها النجاح فعلًا... لا قَدَّر الله.
صحيح أنّ المغامرة التركيّة بدت في أحد جوانب تجليّاتها كما وأنّها جاءت للانتقام من قيام المقاتلات الروسيّة بقصف قافلة "غنائم" الدواعش من النفط السوريّ المهرَّب الذي درجت العادة على أن يشتريه الأتراك بأسعار بخسة لا تتجاوز الدولارين للبرميل، إلّا أنّ ما هو أبعد يتمثّل في أنّ "النتائج الإيجابيّة" التي أسفرت عنها نتائج زيارة الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين الأخيرة لطهران، لم تؤدِّ إلى إحباط معنويّات "السلطان التركيّ" في مجال خططه وطموحاته على الساحة السوريّة وحسب، بل إنّها قضت أيضًا على أحلامه في تحويل بلاده إلى "عقدة غاز عالميّة" تلتقي فيها خطوط أنابيب الدول المصدِّرة في طريقها إلى دول الاتحاد الأوروبيّ، سيّما وأنّ ما رشح عن محادثات الرئيس بوتين مع المسؤولين الإيرانيّين كان كافيًا للتأكيد على أنّ معادلة (الغاز القطريّ + غاز حقل بارس الإيرانيّ + غاز حقل قارة السوريّ = ترانزيت في تركيا) أُلغيت من الوجود، وذلك بعد أن كانت معادلة (الغاز المصريّ + الغاز الإسرائيليّ + غاز شرقيّ البحر الأبيض المتوسّط) قد وُلدت ميّتة في الأصل، الأمر الذي يعني في إطار ما يعنيه أنّ على الأوروبيّين التعامل خلال هذا الشتاء أيضًا مع "قدَر" الاعتماد على الغاز الروسيّ، وهو ما يعطي موسكو في المحصّلة النهائيّة ورقة ضغط رابحة من شأنها تغيير شكل وملامح الارتصافات الدوليّة المناهضة لحربها على الإرهاب في سوريا، بما يضمن استمرار فاعليّة هذه الحرب، وخصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ قيام فرنسا بتصحيح إبرة بوصلة انخراطها في العمليّات العسكريّة ضدّ الإرهابيّين في ضوء ما نجم عن هول صدمة هجمات باريس الأخيرة، لا يمكن إلّا أن يلتقي مع الجهود الروسيّة المبذولة في هذا المجال.
من هنا، تبدو المغامرة التركيّة في إسقاط الطائرة الروسيّة وكأنّها جاءت ثأرًا لكرامة "ثور محبَط" خابت آماله في أن "ينطح" خِرقة منفعة ذاتيّة حمراء ترضي غرور "قرنيْه" الموغليْن في الارتهان لغريزة استباحة دم الأبرياء، بدءًا من الحرب العالميّة الأولى ولغاية اليوم.
ومن هنا أيضًا، يأتي وقوع اختيار الأميركيّين والأطالسة والخليجيّين على تركيا بالتحديد من أجل تنفيذ البُعد الأخطر والأهمّ في السيناريو الموضوع بخصوص مستقبل "داعش". فبغضّ النظر عن موضوع تورّط الأيادي التركيّة – الإسرائيليّة – الغربيّة – الخليجيّة في صناعة هذا التنظيم وتسويقه ودعمه، ومع الأخذ بعين الاعتبار ما ورد أعلاه بخصوص إيحاءات تطوّرات المواقف الروسيّة – الإيرانيّة – الفرنسيّة بشأن فاعليّة الحرب على الإرهاب، بالشكل الذي يقطع ما بين الشكّ واليقين في أنّ هزيمة المشروع التكفيريّ في سوريا والعراق أصبحت آتية لا محالة، فقد بدت فكرة الترويج لإقامة "منطقة عازلة" على الحدود السوريّة – التركيّة وكأنّها فكرة مثاليّة لاستيعاب الدواعش ومَن يدور في فلكهم الظلاميّ بعد هزيمتهم المرتقبة، بما يضمن استمرار جهوزيّتهم للاستخدام في أيّ "ربيع" مقبل، ويُبعد في الوقت نفسه عن الدول التي صنّعتهم خطر "تغلغل" خطرهم فيها، بما يمكن أن يجنّبها مرارة تذوّق "كأس الإرهاب المرّ" إذا ما انقلب السحر على الساحر.
ولعلّ أرذل ما في هذه الجزئيّة من السيناريو وأوقحه هو أنّ اختيار رجب طيب أردوغان للمطالبة بهذه المنطقة العازلة، تحت شعار "حماية التركمان من الغارات الروسيّة"، يحمل من الدلالات ما هو أرذل وأوقح، وخصوصًا إذا تذكّرنا مسألة عضويّة تركيا في حلف شماليّ الأطلسيّ، وأنّ المادّة الحادية والخمسين من ميثاق الحلف تُلزم الدول الأعضاء بالدفاع عن أيّ دولة تتعرّض لاعتداء خارجيّ، ما يعني في النهاية أنّ "الإرهاب الإسلاميّ التكفيريّ" سيكون بخير تحت المظلّة الأطلسيّة... وكأنّ النيتو هنا سيصبح مثل أمّ العريس، يزغرد وحسب. والعريس في زفّة اليوم ليس إلّا "داعش"، والعروس ليست سوى سبايا قانون دوليّ وحضارة إنسانيّة.
إنّها دعارة سياسيّة – تكتيكيّة – استراتيجيّة بامتياز. والدعارة كما هو معروف هي أقدم مهنة في التاريخ، لم يكن ليُقدَّر لها أن تُتوارَث أبًا عن جدّ لو لم يكن رعاتها وشبّيحتها وزبائنها أشباه رجال، لا يمكن أن يراهم رجالًا كاملين على عكس حقيقتهم إلّا أنصاف الرجال، أو أرباعهم... أو ربّما أقلّ!
جمال دملج
(مؤلّف كتاب: البوتينيّة – أسس العقيدة السياسيّة الروسيّة الحديثة)
الأربعاء 25 تشرين الثاني 2015