موسى وهبه.. هل كان ألتوسير العرب؟
أحمد فرحات
ذات مساء، وفي المقهى المعتاد إيّاه على بحر بيروت، فجأة ظهر موسى وهبه بعد طول غياب، قيل إنّه أمضاه في العلاج المتكرّر للمرض الذي دهمه. كان وزنه قد خفّ، هو الخفيف الوزن الجسديّ أصلاً؛ وكان الخبيث قد نال منه وَهَناً وشحوباً وبعض ضآلة؛ لكنّ موسى كان جسوراً على مرضه وقويّاً في تحدّيه لشبكة مفاعيله. قال للجمع من أصدقائه وأنا بينهم: جئنا لنودّعكم يا شباب.. أمر هذا المرض معنا بات محتوماً.. بضعة شهور وينتهي كلّ شيء، ونغادركم. أمّا الآن، فدعونا نعود إلى سيرتنا الأولى بحذافيرها وكأنّ شيئاً لم يكُن.
أصابنا الوجوم بعض الشيء، لكنّ موسى سرعان ما بدّد بنفسه ذلك الوجوم، متجاهلاً خوفنا عليه، أكثر بكثير من تجاهله لخوفه المُضمر على نفسه. ولقد ذكّرني كلامه هذا وموقفه، بكلام وموقف عمّار بلحسن، صديقي القاصّ الجزائري المُبدع، وذلك قبيل أن يصرعه الخبيث منذ سنوات طويلة: "لا مفرّ لي من التعامل مع هذا الزائر الخبيث يا أحمد إلّا بالطُّرق الهزليّة وعنصر التفكّه".
نعم، كان موسى وهبه قد قرّر، ومنذ لحظة علمه بفداحة ما يفعله فيه الزائر الخبيث، أن يُواجِه الأمر بأسلوبٍ هزليّ، موشّح طبعاً بموقفٍ فلسفيّ هايدغريّ الطَّعم، قوامه أنّ الموت ليس أمراً عارضاً، بل هو من طبيعة الوجود الإنساني نفسه، وأنّ الحيّ منذ ولادته يحمل متن الموت بين جوانحه، على الرّغم من أنّ الإنسان، وفي لحظات احتضاره المُباشر، يظلّ يشعر بالفرديّة حتّى أقصاها، وأنّه إذ يموت، يموت وحده، ولن يشاركه في هذا الموت أحد.. ومن هنا كانت تشتدّ لعبة الهزل والتفكّه عند موسى أكثر، وتتّخذ في الغالب طابعاً حواريّاً ضمنيّاً، لا يخرج إلى العلن إلّا مع نخبة النُّخب من أصدقائه، وفي الدائرة الضيّقة التي صدف أن انعقدت أكثر من مرّة في ذلك المقهى البحريّ، الذي كان موسى يصرّ على ارتياده، على الرّغم من تداعيات المرض عليه والنيل الجارح منه، وخصوصاً في الأيّام الأخيرة.
هكذا، وما دمنا نحيا موتنا، وما دام هذا الموت أسلوباً في الوجود، لا يكاد ينفصل عن أسلوب حياة الكائن البشري، وفق منطق وهبه الذاتيّ/ الهايدغريّ معاً، فلنشاغب إذن على مصيرنا، فلنلاعب موتنا، لنمتلك ما أمكن هذا الموت قبل أن يمتلكنا، وتحت طائلة أيّ انكشاف، بسيطاً كان أم عميقاً. المهمّ أن نلعب ونشاغب ونتحدّى ونتنفّس على هوانا بروح المكان والزمان، سواء بلغة مرئيّة، مشخّصة، واضحة، أم بلغة معادلاتها حدوس الأشياء والتجارب الغامضة والرمزيّة التي تعترينا، وخصوصاً لدى ولوجنا مباشرة البوّابة الميتافيزيقيّة للرحيل، أي عندما ندرك باليقين أنّ جرس الموت قد بدأ يدقّ دقّاته الأخيرة. والإنسان المشاغب بهزلٍ فلسفيّاً هنا، على غرار موسى وهبه، أكاد أخاله، يلِد نفسه، ويحوّل نفسه، ويلوّن نفسه ويعقّل نفسه و"يسخّف" نفسه، انطلاقاً من أنّ لكلٍّ منّا موته الخصوصي أيضاً، وتغيّراته الدقيقة، وإحساساته الخفيّة خلال ذلكم الموت. ولا غروَ، فالأحاسيس هي طبقة ثانية من المعرفة كما يُقال.
إذن، رحل موسى وهبه، هذا المتفلسف الخاصّ من لبنان، والذي ظلّ حتّى آخر يوم من حياته يتمتّع بسيادته على نفسه، وضمناً على كثيرين من حوله في مجاله المعرفيّ الفلسفيّ المتحوّل، وإن لم يبح أحدٌ منهم بذلك. ولقد شكّل مع المتفلسف اللّبناني الراحل د. حسن قبيسي ثنائيّاً فلسفيّاً جدّياً، "صامتاً" وفعّالاً، بخاصّة لجهة الاشتغال الفلسفي الذاتي والترجماتي النّوعي غير الاستعراضي؛ وكذلك لجهة كيف كانت تأتيهما الأفكار الفلسفيّة (وخصوصاً الحديثة منها)، وكيف كانا يتصرّفان حيالها ويجريانها في بوتقتهما النقديّة الذاتيّة، ومحرّكاتهما العقليّة، إبداعاً يفيض بالأسئلة الجديدة واستثمارها في أرضنا القاحلة فلسفياً.
كما كانا يبتعدان، وهنا الأهمّ، عن الاستخدام الوعظي للفلسفة، وبأنّها، مثلاً، ذاك "الدالّ الأعلى" دائماً على فكرة التمييز بين الأفكار والمفاهيم والمعارف. كما كانا يشتركان في الميل إلى تزكية ما كان يسمّيه هايدغر بـ"المزاج العاطفي الأساسي للكينونة".
نقد العقل المحض
عن 76 عاماً غادَرَنا موسى وهبه أوائل الشهر الفائت، هذا الفيلسوف والمفكّر والباحث والأكاديمي اللّبناني الحرّ والعقلاني، بعدما أغنى المكتبة الفلسفيّة العربيّة بمؤلّفات وأبحاث ومقالات وتراجم فلسفيّة عتيدة ورصينة، لعلّ في طليعتها كِتاب: "نقد العقل المحض" للفيلسوف كانط، والذي جاء في نحو 900 صفحة، والذي استغرق منه سنوات عمره بالكامل تقريباً. كما ترجم إلى لغة الضادّ، فضلاً عن كانط، الفلاسفة: هيوم، ونيتشة وهوسرل وهايدغر، وكان يحضّر – كما أخبرني – لترجمة نصوص نادرة للشاعر والفيلسوف اللّاتيني الكبير لوكريس.
أسّس موسى وهبه مجلّة فلسفيّة محترمة سمّاها "فلسفة"، صدر منها أكثر من عدد واحد ( عددان على ما أظنّ)، وتعطّل مشروعها لأسباب بحت ماليّة. كما أسّس ما بين عامَيْ 1996 – 1997 ملحق "نهار الكُتب"، الذي صدر عن مؤسّسة "النهار" وترأّس التحرير فيه. وكانت فلسفة هذا الملحق تقوم على مبدأ الدفاع عن الكِتاب بطُرق مغايرة، تستهدف أوّلاً، إيجاد قارىء جدّي ومتابع بمسؤوليّة للكِتاب؛ وثانياً تكوين ذلكم الرقيب المعنوي والصارم الذي عليه أن يختار جودة الكِتاب ونوعيّته، ولا يَنشر المعنيُّ بالنشر هنا إلّا الكُتب الجيّدة ويتجنّب، استطراداً، الكُتب الرديئة، حتّى ولو أنفق عليها أصحابها الملايين، كما كان يردّد.
انخرط موسى وهبه الذي حصّل شهادة دكتوراه دولة في الآداب – جامعة السوربون في العام 1974 بالعمل السياسي المباشر، فانتسب إلى الحزب الشيوعي اللّبناني في العام 1968، ودام نشاطه العملي في هذا الحزب مدّة عشر سنوات، انفضّ بعدها رسميّاً عن العمل الحزبي، وأعاد النظر، حتّى في الفكر الماركسي نفسه، وكان رائده "الملهم" وغير المباشر في ذلك، الفيلسوف الفرنسي المعروف لويس بيار ألتوسير (1918 – 1990) الذي كان هو الآخر منخرطاً في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، ومن بعدها أجرى مراجعة فكريّة ونقديّة شبه شاملة للفكر الماركسي، هو الذي كان منظّراً شيوعيّاً راديكاليّاً حتّى العظم، ورافضاً لكلّ تلك "التطعيمات" المثاليّة الهيغليّة للماركسيّة، التي اندغم فيها حتّى كارل ماركس نفسه، و"الذي لم يكُن ولا مرّة ماركسياً" على حدّ تعبير ألتوسير.
كما كان ألتوسير، وانطلاقاً من راديكاليّته الماركسيّة الأولى، على الضدّ من كلّ النزعات الوجوديّة التي تجلّت فيها الأطروحات الفلسفيّة الماركسيّة لرموز كبيرة من أمثال: هنري لوفيفر وجورج لوكاتش وجان بول سارتر وروجيه غارودي وغيرهم.. وغيرهم. و بعدما انتقل إلى موقع "الضدّ المرن" للماركسيّة، مركّزاً على إعادة قراءة ماركس قراءة نقديّة جذريّة، تُميّز بين ماركس الشابّ وماركس الناضج، متأثّراً طبعاً بالمنهج البنيوي ودروس العلوم الاجتماعيّة، دعا ألتوسير في نسخته "الماركسيّة" الجديدة إلى ما سمّاه "الماديّة التصادفيّة" على نهج أبيقور وديمقريطس. وهي كما يشرح "ليست فلسفة على شكلٍ نسقيّ لتستحقّ اسم فلسفة؛ ولا حاجة لنا أساساً لتحويلها إلى نسق. والمهمّة التي ينبغي العمل بها اليوم ليست بلورة فلسفة ماركسيّة متبلورة هي أصلاً على شاكلتها القائمة، بل فلسفة من أجل الجميع، ومن أجل الماركسيّة نفسها".
وعلى المقلب الآخر، كان موسى وهبه، وخصوصاً في العقدَين الفائتَين، يستظهر "ماركسيّة" خاصّة من نوعها، تخوض صراعاً شاقّاً مع بقايا ماركسيّة راديكاليّة فيه، أنتجت في النهاية هذا الصوت الثقافيّ السياديّ الذي كان يحرص عليه في ألّا يكون شعاريّاً استعراضيّاً، تجاه استنطاق المفاهيم النقديّة التي كان يجترحها، أوّلاً تجاه ماضيه الإيديولوجي الذي لم يتنكّر له والذي تحرّر منه في الآن عينه، وثانياً لأجل تدعيم نهج تكريس مثقّفِ التفكيرِ فيه وتصليبه على حساب مثقّفِ التبرير، وهو النهج الذي اختطّه موسى وهبه حتّى آخر يوم من حياته، وخصوصاً أنّه كان يردّد بأنّنا على المستويَين اللّبناني والعربي، بتنا نفتقد عميقاً المثقّف النقدي الجدّي والثقافة النقديّة الجدّية، بغضّ النّظر عن تأثيرات كلّ تلك الفوضى الفكريّة والسياسيّة التي تعصف بالعالَم اليوم وتشلّه.
وفي إطار فهمه الجديد للماركسيّة، وبعد انقلابه المفاهيمي عليها، طرحتُ هذا السؤال على موسى وهبه: إذا كان لويس ألتوسير قد حرّر الماركسيّة من القراءة العاديّة السائدة لها، وأظهر ضرورة تخليصها من ذلكم الطابع الإيديولوجي التعميمي المرتبط بها، فإلى أيّ قراءة جديدة لأطروحات ماركس تدعو أنتَ يا موسى؟ أجابني على الفور: "هذا بدَوره سؤال شائك وتعميميّ يا صديقي، ومع ذلك أجيبك بأنّني أقرأها من بوّابة أيّ منهج جديد أقتنع به، حتّى ولو كان "منهج اللّا انتماء" بعينه.. أقرأها يا سيّدي كمتفلسف عربي جديد، بات مقتنعاً بضرورة اجتراح قول الفلسفة، القديمة والحديثة معاً، بلغةٍ عربيّةٍ مغايرة ونسقٍ فلسفي عربي مغاير.. ولا أريد البتّة أن أكون مثل أولئك الذين يأتون دوماً من ليل الأُمم الأخرى إلى ليل أمّتهم".
هل أنتَ ألتوسير العرب يا موسى؟.. سألته فأجاب: "لا أحبّ مثل هذه التوصيفات أو التشبيهات، وإن كنتُ لا أخفي إعجابي بالكثير ممّا اجترحه ألتوسير من تنظيرات، وخصوصاً تجاه ما كان يسمّيه بـالمفاهيم الخاطئة للماركسيّة، وفي الطليعة بينها اعتبار الماركسيّة ذات نزعة إنسانيّة مُطلقة".
أحاديث رائقة وعميقة عدّة دارت بيني وبين موسى وهبه، من أبرزها مسألة علاقة الشعر بالفلسفة، وخصوصاً تلك التي عقدها هايدغر مع الشاعر هولدرلن، حيث خصَّص له (أي هادغر) مبحثاً عميقاً تحت عنوان: "هولدرلن وماهيّة الشعر"، أجمل ما فيه برأي موسى أنّ الشعر ليس عبارة عن تجميلٍ للواقع ولا هو تزجية لتمرير الوقت، بل هو ذلك الشأن الذي يظلّ يشي بأنّ الواقع البشري هو عبارة عن شعريّة مستمرّة، سواء أكانت القصيدة هنا هي هذا الانشغال "الأكثر براءة من أيّ انشغال آخر".. أم العكس.
وفي رأي موسى أنّ دوّامة القلق عند الشاعر هولدرلن لا تقلّ هولاً عن دوّامة "العدم الشعرية"؛ ولا بدّ أن يعرف مَن لا يريد أن يعرف من الأفراد أنّه هو أيضاً جزء لا يتجزأ من هذه الدوّامة الكبرى، مهما تجنّبها، أو كان أصلاً غافلاً عنها، أو كان، في أحسن أحواله، منعزلاً عن مجرياتها. وهنا ينطلق راحلنا الكبير من مفهوم الإدراك الحسّي للعالَم، الخارجي منه والمُضمر، تماماً كما جاء به الفيلسوف كانط، الذي خلب لبّ موسى وهبه، وحرّره من خداع الذّات الفلسفية، وكان أساس تحوّله في اتّجاه التفلسف الجديد أو التفكير على الدوام بطريقة أخرى.
وأجمل ما سمعته من الصديق موسى وهبه قبيل رحيله، وفي ذلك المقهى البحريّ إيّاه، أنّ النهضة لا تقوم على التكنولوجيا، تلك التي صدّعوا رأسنا بها، فهذه بالإمكان الحصول عليها عن طريق تدريب الآلاف المؤلّفة، بل الملايين "المُملينة" من أناسنا، والجاهزة، ليس لاستيعاب أسرار تقانتها فقط، بل والمُشارَكة حتّى في آليّات استئناف الاختراع بها أو تطويرها.. والصعوبة كلّ الصعوبة، هي في إنتاج أفراد مُبدعين في الإنسانيّات الكبرى على اختلافها، تكون مهمّتهم إعادة إعمار الإنسان نفسه من خلال إعادة إعمار الثقافة نفسها.
أحمد فرحات/مؤسّسة الفكر العربي- أفق
الخميس 03 آب 2017