­

Notice: Undefined index: page in /home/lbnem/domains/monliban.org/public_html/monliban/ui/topNavigation.php on line 2

الإنسان هو القيمة الأساس ... قراءة في إنسانية كمال جنبلاط

د. سعود المولى

عمل كمال جنبلاط على تقديم أطروحات نظرية وفلسفية إنسانية تدحض النظريات الليبرالية والشيوعية والفاشية حول الفرد والمجتمع وحول الاجتماع البشري ومقوماته.... يقول كمال جنبلاط في نص كتبه في عام 1952: "تصبح القومية تضليلاً اذا ضخمت احدى مرتكزات المجتمع او احدى صفات الإنسان البارزة الى درجة من القوة والتأكيد تضيع فيها او تتضاءل بالنسبة اليها المرتكزات المجتمعية الأخرى وتضمحل فيها صفات الإنسان الأخرى..وهذا ما نعني بالكلية: ان يصبح هذا المرتكز وهذه الصفة "الكل"، وسائر المرتكزات وسائر الصفات اعراضاً او لا شيء... فيخسر المجتمع توازنه الواقعي ولا يعود صالحاً لتنمية مواهب الفرد المتنوعة ويفقد الإنسان اتزانه وانسجامه- ولا شخصية بدون انسجام، بدون انسجام مقدرات النفس-قوى الارادة والفكر والروح في آن واحد- مقدرات الفرد والمواطن والإنسان...فالفرد هو مواطن من حيث هو مجتمعي وهو إنسان من حيث هو بشري...".

وخطأ القومية الاجتماعية بحسب كمال جنبلاط أنها "ضخمت الصفة الاجتماعية في الإنسان فجعلتها الكل بالكل،كما ان خطأ الشيوعية انها ضخمت الصفة الإقتصادية في الإنسان فجعلتها الكل بالكل، وخطأ الديموقراطية الرأسمالية انها جعلت مصالح الفرد الانانية الصغيرة هدفاً للنشاط الاجتماعي والإقتصادي والإقتصادي واقامتها فوق كل مصلحة، فوق مصلحة الجماعة، فوق المصلحة الوطنية او العامة، فوق المصلحة الإنسانية ذاتها- مصلحة الإنسان كشخص"...(مقالة التضليل القومي-جريدة الأنباء-22 شباط 1952). ويسمي جنبلاط القوميين ب"عباد الدولة-هذا الاله الصنم الجديد"، و"عباد الاله/المجتمع...يعبدون في هيكل القومية المتعصبة المتعامية صنماً قد عكسوا فيه جميع نزعات انانياتهم الفردية وقالوا نحن هذا الصنم..وكل عابد صنم انما يعبد ذاته الانانية ولو تنوعت الهياكل وتميزت الاصنام.".. وفي نقده للفكرة القومية الاجتماعية ولكل عباد الاله المجتمع والاله الدولة يرى جنبلاط ان "الغرور الفردي يبقى زهواً فردياً كقولهم الماثور الحياة وقفة عز فقط- ويتحول في الوقت ذاته الى غرور اجتماعي-سوريا فوق الجميع- والحقد الفردي يتحول الى حقد اجتماعي، والانعزالية الفردية الى انعزالية حزبية ومجتمعية-الحياة لنا، اي لنا وحدنا دون سوانا.. والحزبية الفردية والبلدية والاقليمية تتقمص في تشييع حزبي ومجتمعي بغيض، وكبرياء الفرد تتحجر في كبرياء الحزب وكبرياء الجماعة..وانانية الفرد تتحول الى انانية الحزب وانانية الجماعة-سوريا فوق الجميع-وحتمية الفرد المنبثقة من جهله لحقيقته ولكل حقيقة مطلقة تتطور الى حتمية الجماعة...وكبرياء الفرد تتحجر في كبرياء الحزب وكبرياء الجماعة-كقولهم عن سعادة انت اعظم زعيم لاعظم امة، وكمثل قول سعادة "لو لم اكن انا لتمنيت ان اكون انا سعادة" ..(الأنباء-22 شباط 1952)..

ويحلل جنبلاط النظريات القومية المجتمعية فيرى انها "مستمدة أصلاً من نظرة هيغل للدولة وهي مستمدة فرعاً وتفصيلاً من أبحاث درخيم (دوركهايم بعبارتنا اليوم وعبارة جنبلاط أصح لغوياً) وليفي برويل وبوغلي وهالبفاكس وغيرهم من المدرسة الاجتماعية الالمانية والفرنسية للنصف الأخير من القرن التاسع عشر" (مقالة الانانية الفردية- المضللون الآخرون، جريدة الأنباء،1 شباط 1952)..

ويرفض كمال جنبلاط مقولة القوميين وعلماء الاجتماع الألمان والفرنسيين القائلة بأن المجتمع هو الحقيقة المطلقة.."المجتمع هو بالنسبة للإنسان-الفرد فقاسة، هو إحدى الفقاسات لا أكثر، والطبيعة هي فقاسة أخرى، والعقل المنقب عن حقيقة الإنسان (العلوم المادية والعلوم النفسية والروحية والفلسفة والدين)هي فقاسات أخرى..الفكر بحد ذاته فقاسة، وسيلة-للوصول الى الحقيقة، حقيقة الإنسان، حقيقة الذات- لا غاية، فلا يمكن للفلسفات وللعقائد الحزبية أن تكون غاية لأنها من صنع الفكر، لأنها وضعت للإقتراب من الحقيقة،لمعرفة بعض وجوه الحقيقة،ولم توضع الحقيقة في سبيل معرفة الفلسفة ومعرفة عقائد الأحزاب..... بالحقيقة ندرك الأشياء، ندرك المجتمع، كما تبصر العين الأشياء بالنور..والحقيقة هي فينا ولولا ذلك لما كان باستطاعتنا أن نبصر انعكاس الحقيقة في المجتمع وفي الأشياء...من لا يعرف الحقيقة في ذاته، من لا يدرك الحقيقة في ذاته، كيف يستطيع أن يدرك الحقيقة في الآخرين، في الأشياء الخارجة عنها، في المجتمع..... إذا كان المجتمع مجموعة من الأفراد لا كيان انتولوجي له فكيف يمكن للحقيقة أن تظهر وأن تتجلى في المجتمع، إذا لم تكن في الافراد أصلاً، ثم تحققت في الأفراد على تفاوت وتتمييز نسبي،ثم تجلت في علاقات الأفراد بعضهم مع بعض..والمجتمع هو في الواقع إسم جامع لهذه العلاقات بين الأفراد لا أكثر..فلا تجعلوا من الاسم حقيقة.."...(مقال الإله المجتمع- جريدة الأنباء-22 شباط 1952)..

وحتى لا يظن البعض أن دحض فكرة اطلاقية المجتمع تودي به الى الفردية الليبرالية يوضح جنبلاط بأن الفكرة التقدمية الإشتراكية "تشدد هي أيضاً كثيراً على فكرة المجتمع وضرورة جعله احد اقطاب العمل والتفكير البشريين..بل نحن نريد ان نعود بالمواطن عن الفكرة الفردية للإنسان التي طالما بددت جهده وشتتت نفسيته وحطمت مرتكزات تضحياته وتوقه الى الارتقاء..وان نحقق فكرة الوحدة الاجتماعية والتضامن الاجتماعي والاستقطاب الاجتماعي من جديد..على اننا لا يمكننا ان نجعل مفهوم المجتمع شيئاً مطلقاً..".. وفي الخلاصة يوضح جنبلاط الفرق بين الفكرتين: "هم يؤمنون بالمجتمع الاله ونحن نؤمن بالإنسان...قد نبدو ندافع عن الفرد كفرد في معناه الديموقراطي الانفلاتي المنعزل-ولكن ليس هذا قصدنا على الاطلاق...انما نحن ندافع باسم الواقع عن القيم الروحية الخالدة التي بدونها نكون مجرد امكانية، وتصبح حياة الفرد والجماعة لا قيمة لها تتعدى المستوى المعيشي الحيواني العادي للسلالات التي انبثق منها الكائن البشري" (المصدر السابق)...

وبحسب جنبلاط فان الحقائق القومية هي دائماً نسبية كالتصور الذي يعتمده الافراد لحقوقهم فكل منا يرى الحقيقة من زاويته ويتطلع الى الحق والخير والجمال من حدود نفسه وعقله..وتتنوع النظرات بتنوع واختلاف العقول والافكار وامكاناتها وتلونها ومواصفاتها..وهذا من طبيعة البشر ومحدودية معرفتنا لهذه الحقائق والحقوق، والنقص او التشويه الملازم لهذه المعرفة..ولكن يبقى ان المقاييس المعنوية والاخلاقية الاساسية تظل ثابتة لا تتغير كمقاييس الصدق والاخلاص والتجرد والشجاعة والنبل والشرف الحقيقي-لا الذي تتطلبه الوجاهة- والرفعة والطهر في النوايا وفي النهج وفي التصرف، وعدم الايذاء ما امكن، والحب الصحيح وطلب التضحية وروح الاقدام وخدمة الآخرين والبطولة..الخ..وكلها مقاييس لا تتبدل ولا تتغير لانها تعبر عن جوهر ما في الكائن من أصالة إنسانية..

ويضيف بأن الأنا الاجتماعية تضعف في الفرد الشعور بأناه الفردية الضيقة لانها تجعله يتوجه بفكره وعاطفته وتصرفه وتضحيته الى الجماعة اي الى الآخرين..وكل تضحية تضعف من انعزالية وضيق نفوسنا الصغيرة الظاهرة".... على ان الخطر في الركون الى هذه الاجتماعية الضابطة للفردية يكمن في اعتبار هذه الانا المجتمعية مطلقاً قائماً بذاته، له فيها الاكتمال والكفاية وبالتالي تضخيم فكرة المجد الناجم عن ذلك وفكرة الكبرياء القومية الى درجة التهور الشعوري والنعدام التوازن في التبشير وفي التصرف..عوض ان يكون عملنا لاجل الاخرين وللمجتمع وسيلة لتصفية نفسنا ولتطهير نزعاتنا والارتفاع بها ومخاضاً مشرفاً لتجلي نفسيتنا الاصيلة الرفيعة لا ان يكون لنا المجتمع القومي مرآة تنعكس فيها انانا الفردية لتتجسم وتتعاظم الوف المرات..وهو نوع من تعظيم الأنا الفردية عبر عبادة الشخصية...مركب العظمة شيء ونهج الخدمة المجردة عن كل فكرة مجد وثواب شيء آخر..لأجل الخدمة لا أكثر.. تلك تقود الى وجودية العدم..وهذه هي وجودية الذات الإنسانية والمجتمعية الحقيقية..".

ويحلل جنبلاط النظرية الشيوعية، ويسمي أصحابها:المضللون الآخرون، فيقول عنهم "الذين يقولون للناس الإقتصاد هو أساس كل شيء، أساس المجتمع والعائلة والوطن والفلسفة والآداب العامة والمناقبية والدين..وما الإنسان الا انعكاس للمادة ذاتها..".. "ويقول هؤلاء المضللون: الإصلاح والصلاح هو في اعتناق نظرية مادية للكون، نظرية إشتراكية مادية تتقلص فيها جميع مفاهيم المناقبية الروحية، كأن في تغيير الأنظمة وحدها يصطلح البشر، أو كأن الحق والخير والمحبة محصورة في طبقة من الناس دون سواها، فاذا ما سيطرت وحكمت تحقق الحلم العدني الذهبي.." (يقصد الحلم بجنة عدن).. "ويغفل هؤلاء جميعاً عن حقيقة المشكلة وأنه لا يكفي ان نستبدل طبقة بطبقة وأنظمة بأنظمة وشرائع وقوانين بشرائع وقوانين أخرى لكي تسود العدالة والخير والمحبة بين الناس لأن الحق والمحبة هي من أقانيم انعكاس الذات، من وجوه الذات المتجلية في ازدواجية الوجود الظاهر في الإنسان.. فالإصلاح يجب أن يتم من داخل الإنسان ومن خارج الإنسان...إن الإشتراكية الفاضلة التي تؤمن بتأثير الإنسان في الأنظمة وفي حركة تطبيق الأنظمة تستطيع وحدها أن ترشدنا الى الطريق وإلا فنكون كمن خلق آلة بلا وقود وجسداً بلا روح...وفي الحقيقة لو تمكن البشر من إصلاح نفوسهم ومن إزالة أنانيتهم الفردية ومن تمكين ذاتهم الحقيقية من أن تتجلى على تمامها لما كانوا بحاجة الى تعديل أنظمة ولا لاشتراع قوانين".(الأنباء-1 شباط 1952)..

وبحسب كمال جنبلاط فإن جميع المذاهب الاقتصادية تعود فتنحصر برأيه في تيارين أو اتجاهين كبيرين: تيار التسيير الاقتصادي Dirigisme وتيار الليبرالية Liberalisme وفيهما يتحقق ما يسميه "حركة تفاعل الإنسان مع الطبيعة وتفاعل الفرد مع الدولة".. وهو يؤيد ما ذهب إليه ألكسي كاريل بأن الليبرالية الحديثة والماركسية الحديثة هما من أصل واحد وأنهما بالتالي تتمان بعضهما...

أما النقطة الأبرز والأهم في فهم جنبلاط للمسألتين الاقتصادية والاجتماعية فتكمن في نظرته إلى العقلانية التي سادت الغرب إذ يراها هي "الخطيئة الأصلية للعالم الحديث" (تاريخ الاقتصاد، في بعده الإنساني، ص394)...فيدعو إلى التحرر من العقلانية أو بالحري "أن نتعداها إلى واقع الاختبار، الى واقع الحياة البشرية"(ص 395).. فلا يمكن للإنسان الانفصال عن الطبيعة التي هو جزء منها...ونظرية الإنسان الاقتصادي المدني وما ينجم عنها من مستلزمات في حياة الجماعة هي من اختراع الليبرالية والماركسية لا من اختراع الطبيعة..فهذا الإنسان ليس فقط كائناً اقتصادياً "ينتج ويستهلك"..إنه "منذ بدء تطوره ظهر منه حب الجمال، والشعور الديني،والتمحيص العقلي،والخيال الخالقن وروح التضحية والبطولة. إن حصر الإنسان في نشاطه الاقتصادي يعادل جزيئات من جزء ذاته" (ص 395).. ولذلك فإن الليبرالية والماركسية تناقضان نزعات أساسية للطبيعة..

أما النظام الاشتراكي الإنساني التعاوني الذي يدعو اليه كمال جنبلاط فهو يجمع بين إمكانية التملك الفردي وإمكانية التملك العمومي، فتزدهر بذلك نزعات الأفراد المتعاكسة(بين أنانية وغيرية).. ومن هنا ضرورة جعل الإنسان هدفاً للاقتصاد لا الاقتصاد هدف الإنسان...تماماً كما ضرورة جعل الإنسان هدفاً للسياسة وهدفاً للدين لا العكس... السبت وجد لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت.."فالإنسان ليس هو الفرد..إذ الفرد مجرد إمكانية... الإنسان هو الشخصية البشرية بما تكتنفه من وعي وحرية وتوق الى الجمال والحق والخير"(ص 396)... "الإنسان منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا...يبحث بعطش محموم عن الاستقرار والسعادة..والاستقرار شرط من شروط السعادة...ويسعى الى تبديل الأنظمة القائمة ويتحول عن النظريات الاقتصادية الى غيرها طالباً هذا الاستقرار وهذه السعادة خارج ذاته...يطلب الإنسان السعادة خارج نفسه، ولا يعلم أن السعادة التي يطلبها من الأشياء ليست موجودة أصلاً في الشياء...إنها موجودة في صميمه" (ص 398)...

كما في الآية الكريمة "وفي أنفسكم أفلا ُتبصرون"، وفي الحديث النبوي: "من عرف نفسه فقد عرف ربه"، وكما في القول المشهور عن الامام علي بن أبي طالب:

"دواؤك فيك وما تشعر وداؤك فيك وما تبصر

وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

وفي العبارة الشهيرة التي كانت منقوشة على مدخل هيكل دلف في اليونان القديمة:" إعرف نفسك"..

هكذا كتب جنبلاط قبل أكثر من نصف قرن فكأنه كان يستبق موجات المجتمع المدني العالمي المطالب بأنسنة العلوم والاقتصاد والسياسة... نعم الأنسنة: من أجل سعادة الإنسان.

د. سعود المولى

الأربعاء 30 أيلول 2015