التغيير الديموغرافي في سوريا اصبح واقعاً هل يعي حزب الله خطره على لبنان؟
د.فادي الأحمر
حصار. قصف. تجويع. فترحيل. كلمات أربع تختصر استراتيجية النظام وحلفائه الإيرانيين و"حزب الله" منذ العام 2013. الهدف بات واضحاً: تغيير الديموغرافيا السورية. وتحديداً ديموغرافيا المدن الرئيسية في "سوريا المفيدة" والمناطق المحاذية للحدود اللبنانية، وذلك عبر ترحيل السنّة الذين يشكّلون الغالبية فيها وإسكان غير السنّة محلهم. هذه الاستراتيجية التي برزت في الزبداني منذ حوالي السنة وأخذت طابعاً دولياً مع حصار الاحياء الشرقية لمدينة حلب بدأت منذ زمن. أين؟ وكيف؟
مدينة القصير المحاذية للحدود اللبنانية ولمدينة حمص – الاستراتيجية، كانت اوّل تجربة في هذا الإطار. في العام 2013 حاصرتها قوات النظام ومقاتلون من "حزب الله". كانت المعركة الاولى التي برز فيها تدخّل "حزب الله" العلني في الحرب السورية. حتى ذاك التاريخ كان الحزب يتكتم على مشاركته. واذا ما اضطر الى التصريح حول الموضوع يقول ان بعضاً من عناصره هناك لحماية مقام السيدة زينب. وفيما بعد راح يقول انه هناك لـ "حماية ظهر المقاومة" او "حماية محور المقاومة"... حتى انتهي به المطاف في حجّة "الحرب الاستباقية على التكفيريين"! بالعودة الى "القُصَير"، فقد انسحب مقاتلو المعارضة السورية بعد معارك ضارية وحصار استمر اسابيع. خرجوا مع عائلاتهم. فرغت المدينة من سكّانها. دمّرت منازلها بالقصف العنيف. وجُرفت تلك التي نجت من القصف. بشكل انه لم يتمكّن سكان المدينة من العودة اليها!
التجربة الثانية كانت في مدينة حمص نفسها – عاصمة "الثورة" السورية. هنا الموقع الجغرافي استراتيجي. حمص هي التقاطع الاساسي في البلاد. فهي التي تصل العاصمة بالمدن الشمالية. وهي التي تصل الداخل السوري بالساحل. والاهم من كل ذلك بالنسبة الى النظام، انها المدينة التي تصل الساحل السوري ذا الغالبية العلوية بالشام. كما انها المعبر الاساسي لأي خط نفط او غاز يمتد من ايران حتى البحر المتوسط. لذلك كانت حمص الهدف الاول للنظام وحلفائه. فقد حشد هؤلاء قواتهم العسكرية لاستردار المدينة التي كانت قد اصبحت عاصمة "الثورة" السورية السلمية. وفيما بعد مركز الثقل العسكري للمعارضة المسلّحة. لم يخفِ الايرانيون وحزب الله مشاركتهم بفعالية في المعركة. لم يأبهوا للانتقادات والتنديدات والاستنكارات التي صدرت عن افرقاء لبنانيين وسوريين وعرب واجانب. فالمشروع الايراني الشيعي – العلوي أهم. وهو تغيير ديموغرافيا المدينة الاستراتيجية ذات الغالبية السنّية. هذا التغيير كان قد بدأه الاسد الاب. فهو ادرك الاهمية الاستراتيجية لمدينة حمص ولخطر الغالبية السنّية فيها على نظامه خاصة بعد معارضة الاخوان المسلمين المسلّحة له بين عامي 1977 و 1982. فهو استقدم علويين من الساحل السوري واسكنهم في أحياء من المدينة مثل الزهراء والنزهة.
الحرب السورية اليوم تقدّم "فرصة تاريخية" للاسد الابن ولحلفائه الايرانيين و"حزب الله" الذين لديهم مشروع استراتيجي وهو تحصين "الهلال الشيعي" الذي كثُر الكلام عنه بعد سقوط بغداد والممتد من ايران حتى لبنان مروراً بالعراق وسوريا. الحرب السورية شكّلت تهديداً جدّيا لهذا المشروع. وكادت، لو سقط النظام، ان تقطّع اوصاله. ذاك كان الدافع الاساسي وراء تدخّل الحرس الثوري و"حزب الله" في المعارك لحماية النظام اولا في دمشق وثانياً في حمص. لذلك، وبعد اسقاط "القصير" وقطع التواصل بين الثوار السوريين وسنّة الشمال اللبناني، تمّت محاصرة المدينة القديمة لمدة سنتين تقريباً. انتهت بخروج المقاتلين منها باتفاق بين النظام وحلفائه والفصائل المعارضة برعاية الامم المتحدة. ذاك كان اول نجاح لاستراتيجية النظام وحلفائه القائمة على الحصار الكامل والقصف التدميري والتجويع القاتل والترحيل القسري. مصادر سورية تؤكّد ان عائلات شيعية وعلوية استُقدمت الى المدينة لتحل مكان السنّة الذين رُحّلوا عنها. ويشير قاضٍ سوري سابق الى ان النظام يعطي السكان الجدد بطاقات قيد في المدينة القديمة ليؤكّد فيما بعد انهم من قدامى أهل المدينة.
بعد حمص عمل النظام وحلفاؤه على تأمين الطريق التي تصل بينها وبين العاصمة دمشق. في هذا الاطار تندرج معركة القلمون. هنا ايضاً برز المشروع التهجيري للسكان ليس الى الشمال السوري إنما نحو الغرب في اتجاه لبنان حيث تقع مدينة عرسال السنّية. فقد لجأ العديد من المقاتلين والمدنيين الى جرود المدينة اللبنانية. ومذاك بدأت ازمة عرسال والمواجهات مع فصائل المعارضة التي ادّت الى اختطاف عدد من العسكريين. بعضهم استشهد. بعضهم عاد. ولا يزال الاهالي ومعهم كل لبنان ينتظر عودة الباقين سالمين.
نجاح استراتيجية الحصار والتجويع والترحيل في حمص شجّع النظام وحلفاؤه على اعتمادها في مدن أخرى لتأمين العاصمة والخط الذي يربطها بالساحل. وتمايَز النظام عن حلفائه الايرانيين و"حزب الله" في تركيز هؤلاء في مرحلة من المراحل على اولوية تطبيق هذه الاستراتيجية في المدن الواقعة في الجغرافية السورية الممتدة على طول الحدود اللبنانية. من هنا اتى تطويق مدينة الزبداني. الحرس الثوري و"حزب الله" فاوضوا الفصائل المعارضة في المدينة لاخلائها نحو الشمال السوري حصراً. في المقابل طالبوا بالسماح بخروج شيعة بلدتي كفريا والفوعة في ريف حلب الى مناطق النظام. اتفاق الزبداني اخرج الى العلن مشروع التغيير الديموغرافي في سوريا. تحسّبت المعارضة للمسألة ورفضت الطلب الايراني. ولكنها اضطرت للانسحاب من المدينة.
داريا، التي تبعد سبعة كيلومترات عن العاصمة، شهدت المصير نفسه في آب الماضي بعد اربع سنوات من الحصار. خرج منها خمسة آلاف بين مدني وعسكري. علماً ان عدد سكان المدينة كان يبلغ حوالي ربع مليون نسمة. تم نقلهم الى شمال البلاد. كما ويستمر الحصار على مدينة مضايا القريبة من الزبداني، والمعضمية المحاذية لداريا ومطار المزة العسكري. وتحتل هذه الاخيرة اهمية استراتيجية في كونها تقع على الطريق الاساسي الذي يربط العاصمة بالجنوب السوري والجولان.
آخر محطة في استراتيجية الحصار والتجويع فالترحيل كانت في حلب. ولكنها ليست الاخيرة على الجغرافيا السورية. نسبياً، لم يدم حصار القطاع الشرقي من ثاني المدن السورية طويلاً. فالروسي استعجل السيطرة عليه قبل تسلّم الادارة الاميركية الجديدة مهامها في العشرين من الجاري. ونجح. والنتيجة خروج حوالي مليون نسمة من الاحياء الشرقية من "الشهباء". تم نقلهم الى محافظة ادلب. هنا الهدف ربما يكون مختلفا. لا يبدو ان موسكو تسعى الى تغيير ديموغرافي في سوريا. لا بل يُحكى عن انها تعارض مثل هذا المشروع. ومع بدء تدخّلها العسكري المباشر في سوريا افادت مصادر انها وضعت حداً لتشكيل ميليشيات شيعية كان قد بدأ بها الحرس الثوري و"حزب الله". ولكن تهجير اكثر من نصف سكان المدينة التي كان يبلغ تعداد سكانها حوالي مليوني نسمة لا بد وأن يؤدي الى تبديل ديموغرافي فيها. فنزوح الاهالي عن مناطقهم لسنوات لا بد وان يؤدي الى تغيير ديموغرافي. يكفي ان ننظر الى بعض المناطق في جبل لبنان والبقاع والجنوب والشمال لنتأكد من هذا الواقع الاجتماعي الذي ينتج عن الحروب الداخلية.
ولكن السؤال لماذا يقوم النظام السوري وايران و"حزب الله" بتغيير ديموغرافي في هذه الجغرافيا من سوريا؟
لقد اصبح واضحاً ان النظام العلوي يعمل لاحكام سيطرته على الجغرافيا الممتدة من العاصمة الى الساحل السوري وممرها الالزامي حمص. وقد ساعده التدخّل الروسي على تأمين الخلفية الجغرافية لمنطقة الساحل الواقعة في سهل الغاب ومدينة حماه وأخيراً في حلب. بذلك يكون قد أمّن لطائفته افضل واقع جيوسياسي لمواجهة الحل الذي سيعتمد في سوريا في المستقبل اكان اللامركزية الموسّعة ام الفدرالية ام التقسيم. فالدولة العلوية التي عرضها الفرنسيون على اجداد الاسد ورفضوها سيقبل بها هو اياً كان شكلها بعد أن فقد سيطرته على كامل سوريا. وستدعمه طائفته خوفاً من انتقام الغالبية السنّية بعد اكثر من اربعة عقود من حكم علوي بالحديد والنار.
اما ايران و"حزب الله" من جهتهما، فيعتبران ان إفراغ "سوريا المفيدة" من الغالبية السنّية وإسكان شيعة افغان وعراقيين وايرانيين ولبنانيين، يؤمّن سيطرتهما ونفوذهما على مدى طويل على هذا الجزء من سوريا. كما يعتبران انهما يؤمنان بذلك الخلفية الجغرافية للبنان وعمقاً جغرافيا للمواجهة مع اسرائيل. وتضمن ايران بذلك منفذاً للهلال الشيعي على البحر المتوسط. ولكن فات الاثنان ان أكثر من مليون ونصف من الذين رُحّلوا من سوريا، وغالبيتهم من الطائفة السنّية، يقيمون اليوم في "قلب لبنان". ويشكلّون اليوم عبئاً ديموغرافيا على لبنان وفي المستقبل خطراً على تركيبته السكانية. فهل يعي حزب الله هذا الخطر الذي سيطاله هو اوّلاً كمكوّن شيعي في لبنان؟ وإذا ما صدقت الادارة الاميركية الجديدة وتمكّنت من إقامة مناطق آمنة في سوريا لإيواء النازحين السوريين فإلى اي من هذه المناطق سينقل النازحون السوريون الموجودون في لبنان؟ وهل سيطالب الحزب بأن يعود هؤلاء الى المناطق التي تقع اليوم تحت سيطرته وسيطرة النظام؟ يبدو ان القيادة في الضاحية لم تفكّر في كل هذه المخاطر حين اتخذت قرارها بالذهاب الى سوريا.
د.فادي الأحمر/المسيرة
21/01/2017