­

Notice: Undefined index: page in /home/lbnem/domains/monliban.org/public_html/monliban/ui/topNavigation.php on line 2

عن الدفاع الأوروبي المشترك

إعداد سعود المولى

قال خافيير سولانا (الممثّل السامي للاتّحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في أعوام 1999-2009) ذات مرّة، إن الدفاع الأوروبي يتحرّك "بسرعة الضوء". كان ذلك بعد عام 2003، عندما كان الاتّحاد الأوروبي قد تبنى للتو "إستراتيجية الأمن الأوروبي" وشنّ أولى عملياته العسكرية في الخارج، في البلقان وإفريقيا. لكن ظهر فيما بعد أن السياسة الخارجية والأمنية تتقدّم بسرعة السلحفاة، وهو الحيوان الذي جعله الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان (1974-1981) شعار مؤتمر الاتّفاقية الأوروبية المنبثق عن المجلس الأوروبي، والذي ترأس ديستان أعماله في الفترة 2002-2003، وهو شعار يجسّد طول العمر والبطء في آن. في الواقع، استغرق الأمر 20 عامًا بين إطلاق عملية البناء الأوروبي (1949-1951، الجماعة الأوروبية للفحم والصلب) وإقامة التعاون الأوروبي في المجال الدبلوماسي (1970)؛ ثم 20 سنة أخرى لكي يتحوّل "التعاون السياسي الأوروبي" إلى "سياسة خارجية وأمنية مشتركة" (معاهدة ماستريخت، 1992)؛ ثم من 10 إلى 20 سنة أخرى لإطلاق العمليات الأولى لسياسة الدفاع الأوروبية وإنشاء إدارة دبلوماسية أوروبية مشتركة (2010).

ومنذ اعتماد الإستراتيجية الأمنية الأوروبية في عام 2003، تطوّر الوضع بشكل ملحوظ. وقد تعاقب على منصب الممثّل السامي للاتّحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية أربعة رؤساء(جوزيب بوريل الحالي وقبله فيديريكا موغيريني، وسبقهما خافيير سولانا وكاثرين أشتون)؛ ودخلت معاهدة لشبونة التي تعزّز صلاحيات الممثّل السامي حيّز التنفيذ في عام 2009. وفي تلك الفترة عرفت الولايات المتّحدة أربعة رؤساء (جورج دبليو بوش وإدارتَي أوباما ثم بايدن). ولم يحصل أي تعديل في الإستراتيجية الأمنية الأوروبية منذ عام 2003، ولكنها كانت موضوع تقرير تحديث في عام 2008، كما أنه يجري الإعداد لـ"إستراتيجية عالمية" جديدة للسياسة الخارجية والأمنية لكي تحلّ محلّ القديمة.

من نافلة القول إن الاتّحاد التزم في إستراتيجياته تلك بضرورة الردّ على التهديدات التي سبق أن حُدّدت في عام 2003 (الإرهاب، انتشار الأسلحة، الصراعات الإقليمية، فشل الدولة، والجريمة المنظّمة) ثم تلك المضافة في عام 2008 (الجريمة الإلكترونية، القرصنة، أمن الطاقة، والتغيّر المناخي)، وعمل على توفير الوسائل المناسبة لتحقيق الأولويات الإستراتيجية الرئيسية التي حدّدها لنفسه في ذلك الوقت: التصرّف في مواجهة التهديدات من خلال الجمع بين الوسائل المدنية والعسكرية، وبناء الأمن في جوارها، وتعزيز تعدّدية فعّالة. وكانت إستراتيجية عام 2003 أكثر إثارة للإعجاب لأنها، على الرغم من ادّعاء التعاون عبر الأطلسي، تميّزت في الواقع عن الإستراتيجية الأميركية التي كانت تفضّل آنذاك العمل العسكري على نطاق الكوكب، وأحادية القرار في السياسة الخارجية.

لفترةٍ طويلة، لم يكن لدى أوروبا سوى سياسة خارجية نابعة من قدراتها الخاصة الداخلية، التي تشمل التجارة والتعاون الاقتصادي والمساعدات التنموية، والنقل والزراعة وصيد الأسماك والبحوث وما إلى ذلك. مع مرور الوقت، أُضيف التعاون في المسائل الدبلوماسية وسياسة أمنية ودفاعية مشتركة (PSDC) انطلقت بشكل مزدوج مدني وعسكري. ولمدّة خمسة عشر عامًا تقريبًا، عزّز الاتّحاد الأوروبي عمله بجعله أكثر تماسكًا وقوّة، لكنه لا يزال بعيدًا عن أن يكون جهة فاعلة قوية ومتكاملة مثل الولايات المتّحدة.

ومن حيث التماسك، فإن معاهدة لشبونة (التي استعادت إنجازات مشروع الدستور الذي رفضه الشعبان الفرنسي والهولندي) قادت إلى دفع الأمور إلى الأمام. فإن وظائف الممثّل السامي للسياسة الخارجية والأمنية المشتركة (PESC) (التي أنشئت في عام 1999، بعد معاهدة أمستردام) ومفوّض العلاقات الخارجية (يغطّي الجانب الخارجي لـلسياسات المجتمعية) قد أدمجتا في المنصب الجديد المسمّى الممثّل السامي للاتّحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية (HRAPS)، وهو منصب يجمع بين الممثّل السامي للسياسة الخارجية والأمنية المشتركة (CFSP) ذو طبيعة ما بين الدول)، ونائب رئيس المجموعة (لتنسيق جميع الأعمال الخارجية للاتّحاد)، والرئيس الدائم لمجلس وزراء الشؤون الخارجية. ثم أنشئت الدائرة الأوروبية للشؤون الخارجية (EEAS) بدمج مديرية العلاقات الخارجية للمفوّضية وأمانة المجلس وأدخلت فيها عددًا من الدبلوماسيين من الدول الأعضاء يعيّنون بصورةٍ موقّتة، للتأكيد على دبلوماسيةٍ أوروبية أكثر تكاملًا، ولكي تدير 140 بعثة للاتّحاد الأوروبي في بلدان العالم.

السياسة الخارجية والأمنية المشتركة هي آلية للتشاور بشأن السياسة الخارجية لمختلف البلدان، وقد دمجت في مكتسبات المجموعة من المعاهدات بفضل معاهدة ماستريخت لعام 1997. وجرى توحيد السياسة الخارجية والأمنية المشتركة بموجب معاهدة لشبونة لعام 2009، الذي أعطى الاتّحاد شخصيته القانونية وأهلية إبرام الاتّفاقيات مع الدول والمنظّمات الدولية. وكان أعظم ابتكاراتها هو إنشاء منصب الممثّل الأعلى للاتّحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية (الذي يشغله حاليًا الإسباني جوزيب بوريل)، الذي يرأس PESC باستقلالية واسعة وصلاحيات خاصة وموارد خاصة بما في ذلك الدائرة الأوروبية للشؤون الخارجية (EEAS). لقد تبنى الاتّحاد الأوروبي سياسة الأمن والدفاع المشتركة (CSDP)، والتي تُعدّ جزءًا لا يتجزّأ من السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة (PSDC) والتي تسمح له بالحصول على قدراته التشغيلية الخاصة في الخارج، في شكل بعثات مدنية وعمليات عسكرية في بلدان خارج الاتّحاد.

وحوفظ على نظام السلطة الثنائية فقط على أعلى مستوى ليجمع الشق المجتمعي بشق السياسة الخارجية والأمنية المشتركة، ويمثّل رئيس المجلس الأوروبي الاتّحاد في السياسة الخارجية والأمنية المشتركة، ويرأس المجلس الأوروبي، لكن رئيس المفوّضية يظلّ مختصًّا بالعلاقات المجتمعية الخارجية. وفي لقاءات القمة مع دول ثالثة، يحضر من حيث المبدأ رأسا الاتّحاد الأوروبي. لكن هذا لا يجري دائمًا من دون منافسة: رأينا ذلك في أزمة الهجرة في نهاية عام 2015، حيث تولّى الرئيس تاسك Tusk زمام المبادرة في قمة فاليتا مع الدول الإفريقية، ونظّم الرئيس يونكر Juncker قمة بروكسل مع دول البلقان (جزء من سياسة توسيع عضوية الاتّحاد، وبالتالي فهي من مهمّات المفوّضية).

لقد كان الاتّحاد الأوروبي على العموم ناجحًا إلى حدٍّ ما في القيام بعمليات خارجية عالمية متكاملة، كما تبدّى ذلك من خلال إطلاق سياسة الأمن والدفاع الأوروبي في عام 2003 في شكل عمليات مدنية وعسكرية على السواء. وجرى تطوير القدرات المدنية (الشرطة، الدرك، خبراء في سيادة القانون، وفي الإدارة المدنية والحماية المدنية) في الوقت تفسه الذي وقع فيه تطوير القدرات العسكرية (فيلق الإسقاط، المجموعات التكتيكية). وحتى قبل أن يتبنى الناتو مفهوم "المقاربة الشاملة" في إدارة الأزمات (2010)، أظهر الاتّحاد الأوروبي قدرته، في البلقان على وجه الخصوص، على نشر كامل نطاق أدواته: عمليات حفظ السلام العسكرية (البوسنة، مقدونيا)، عمليات حفظ السلام بالشرطة (مقدونيا، فلسطين، أفغانستان)، دعم إصلاح قطاع الأمن (إفريقيا)، دعم سيادة القانون (جورجيا، العراق)؛ ولكن أيضًا المساعدات الإنسانية والمساعدات في إعادة الإعمار والدعم الاقتصادي والفنّي في مجالات السياسة المجتمعية الخارجية كافة (إصلاح الدولة، إدارة الحدود، الجمارك، النقل، الطاقة... إلخ).

وتشكّل إستراتيجية الاتّحاد الأوروبي في منطقة الساحل مثالًا جيدًا على هذا المزج بين المساعدات التنموية والعمل الدبلوماسي (من خلال "ممثّل خاص" لـلاتّحاد الأوروبي)، وعمليات سياسة الأمن والدفاع المشتركة (التدريب العسكري والإجراءات الأمنية في مالي والنيجر) للردّ على تهديد الإرهاب وضغط الهجرة. ولم تكن لجنة السياسة والأمن المكوّنة من سفراء الدول الأعضاء COPS التي أنشأتها معاهدة نيس (2000) هي وحدها التي تغطي على وجه التحديد جميع عمليات سياسة الأمن والدفاع المشتركة، ولكن جرى أيضًا تعزيز العلاقة بين الأمن الخارجي والأمن الداخلي من خلال إنشاء منصب منسّق أوروبي لمكافحة الإرهاب عام 2007 ولجنة للأمن الداخلي (COSI، مؤلّفة من كبار المسؤولين من الدول الأعضاء) في عام 2010. وللأخذ في الاعتبار هذا النهج العالمي المتزايد الشمولية والتكامل في السياسة الخارجية والأمن، انغمس الاتّحاد الأوروبي منذ عهد السيدة موغيريني في تطوير ملفّ الإستراتيجية العالمية (والتي استكملت في حزيران/يونيو 2016) لكي تتجاوز الإطار الأحادي للسياسة الخارجية والأمنية المشتركة PESC.

منذ نشر الإستراتيجية الأمنية الشاملة للاتّحاد الأوروبي في عام 2016، صارت سياسة الأمن والدفاع المشتركة تهدف إلى دعم دور الاتّحاد الأوروبي كموفّر للأمن العالمي، والذي يتضمّن اتّخاذ قرار بشأن الأزمات التي يجب عليه معالجتها، والوسائل اللازمة للقيام بذلك ودور شركائه في هذه المهمّة.

وفيما يتعلّق بتنمية القدرات، أطلق المجلس الأوروبي، بدعمٍ نشط من إسبانيا ودول أعضاء أخرى، التعاون المنظّم الدائم في مجال الدفاع (PESCO) في عام 2017. وهذا تعاون معزّز يهدف إلى تحسين التنسيق وزيادة الاستثمار في تطوير القدرات الدفاعية. ومن خلال بيسكو، تعمل الدول الأعضاء على تحسين فعاليتها في مواجهة التحدّيات الأمنية وكذلك التحرّك نحو التكامل وتعزيز التعاون الدفاعي داخل إطار الاتّحاد الأوروبي. وفي عام 2020، تمّ إطلاق خطّة العمل الدفاعية الأوروبية. وهي تشتمل على أداة مالية، الصندوق الأوروبي لشؤون الدفاع، الذي يهدف إلى دعم البحث وتطوير الابتكار في هذا المجال.

أدوات السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة الجديدة هذه صاحبها دعم متجدّد للمهام المدنية من خلال اتّفاقيات الأمن والدفاع المشتركة المدنية لعامي 2018 و2023، ومبادرة EACD (التقويم المنسق لشؤون الدفاع في وكالة الدفاع الأوروبية)، والمنشأة الأوروبية للسلام FEP، التي تهدف إلى تمويل المعدّات والخدمات العسكرية لشركاء الاتّحاد الأوروبي (وهذا يلعب دورًا أساسيًا لدعم القوّات المسلّحة الأوكرانية بعد العدوان الروسي عام 2022)، وأخيرًا، البوصلة الإستراتيجية، وهي وثيقة توجيهية، تحدّد الأهداف مع المعايير الزمنية المرتبطة بها لتعزيز دور الاتّحاد الأوروبي كعنصرٍ فاعل في الأمن العالمي، وذلك من خلال السعي إلى تماسك الإجراءات في إطار سياسة الأمن والدفاع المشتركة وعلى أساس تحليل المخاطر والتهديدات في البيئة الأوروبية.

تميّز عام 2022 بالطبيعة قصيرة المدى لسير العمليات في أوكرانيا، بدءًا من المقاومة الأولية غير المتوقّعة لأوكرانيا وحتى هجومها المضاد المنتصر في الخريف، مصحوبًا بمساعدات "موقّتة" من الولايات المتّحدة وأوروبا بمعنى أنها كانت "مرتبطة بالظروف". ولكن الأمر الأساسي أن مصير الأوكرانيين أصبح بين أيديهم إلى حدّ كبير. وكان عام 2023 عام توطيد وهيكلة المساعدات التي صارت تعتمد عليها أوكرانيا عسكريًا واقتصاديًا، مع ما يترتّب على ذلك من تضييق مجال المناورة، كما تبيّن بوضوح من خلال النشاط الدبلوماسي للرئيس زيلنسكي والضغط السياسي الإعلامي لصالح الهجوم المضاد في الصيف. ويبدو أن عام 2024 سيكون عام استدامة الحرب بالنسبة إلى أوكرانيا التي أصبحت الآن رهينة الخيارات الإستراتيجية الغربية، التي لا تزال تتأرجح بين التعبئة والتخلّي.

وتؤدّي هذه المماطلة إلى خلق حالة من التردّد، هي لصالح روسيا التي تتبنّى خيارات واضحة وتنجح في جعلها مقبولة من جانب الرأي العام. ولكن بعد كلّ الاستثمار الكبير في أوكرانيا وجعل هذا الصراع مثالًا للصراع بين الديمقراطيات الغربية والأنظمة الاستبدادية، هل تستطيع الولايات المتّحدة والأوروبيون تحمّل النكسة؟ إن العقلانية تملي علينا أن نردّ بالسلب، ولكن الحقائق عنيدة: فكلّ العناصر المتاحة لنا تظهر تنازلًا افتراضيًا من جانب الغرب، بسبب الافتقار إلى التعبئة الكافية. ويلفت في هذا السياق مسارعة الرئيس ماكرون إلى تصعيد اللهجة إلى حدّ طلب التدخّل العسكري الأوروبي المباشر.

في الواقع، صمدت اتّفاقيات هلسنكي (1975) التي تكرّس بشكل خاص عدم استخدام القوّة وحرمة الحدود. وفي هذا السياق، تعيد المؤسّسات العسكرية والاقتصادية التموضع حول غاياتها الأصلية. يركّز الناتو على الدفاع والتوازن، بينما يركّز الاتّحاد الأوروبي على الدعم الاقتصادي والمالي لأوكرانيا، في حين تبقى منظّمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) معاقة. من هنا كلام المحلّلين عن ضرورة أن يجد الاتّحاد الأوروبي مكانه ضمن هذا الهيكل الأمني الأوروبي الجديد. وبهذا المعنى فإن الاتّحاد الأوروبي يجب أن يكون له مقعد على طاولة المفاوضات. ومع ذلك، ومن وجهة نظر محض عسكرية لهندسة الأمن، لم تحتلّ أوروبا بعد هذا الموقع. ومن ناحية أخرى، وإذا أخذنا معنى أوسع لمفهوم الأمن، أي بما في ذلك الأمن السيبراني والرقمي، الاتّصال، والطاقة، والنقل، والفضاء، يتمتّع الاتّحاد الأوروبي بمكانته بالفعل. منذ 24 شباط/فبراير 2022، أظهر الاتّحاد الأوروبي وحدة فريدة في دعم أوكرانيا وفي العقوبات ضد روسيا. وهكذا، في 5 تشرين الأول/أكتوبر 2022، اعتمد الاتّحاد الأوروبي الحزمة الثامنة من العقوبات ضد روسيا. وقد حشدت 3.5 مليار يورو لتوريد الأسلحة إلى أوكرانيا و23 مليار يورو من المساعدات المباشرة (الإنسانية والبنية التحتية). وهكذا تجرّأ الاتّحاد الأوروبي على المستوى العسكري، على عكس ما كان يأمل الرئيس الروسي بوتين. ومع ذلك، فإن وحدة الاتّحاد الأوروبي لا تزال هشّة.

إعداد سعود المولى

السبت 24 آب 2024