­

Notice: Undefined index: page in /home/lbnem/domains/monliban.org/public_html/monliban/ui/topNavigation.php on line 2

لبنان بين القمم والخيم

الدكتور داود الصايغ

لم يكن لبنان يومًا في غُربةٍ عن العالم. إنّه كان ولا يزال على مُفترق العوالم. لعلّه نشأ موئلًا قبل أن يصير وطنًا. عرفه كلّ من اقترب منه وأدرك حقيقة تلك الأرض ومن عليها. من الضيوف إلى الضالين إلى اللاجئين ونازحي هذه الأيام. فكم من خيمةٍ نُصبت في لبنان لأولئك الهاربين من الاضطهاد على أنواعه والباحثين عن ملجأ، من الجوار الفلسطيني بالأمس إلى الجوار السوري اليوم. خِيَم الأمس تحوّلت إلى مخيمات بانتظار ربما أن تتحوّل خيم السوريين إلى مخيمات هي الأخرى. يشجّع على قيامها من هم في موقع القرار في الخارج، وعجز من هم في موقع القرار في الداخل. والنتيجة هي اليوم، كما بالأمس، ذلك الضعف البنيوي المنسوب للدولة في لبنان، نتيجة عدم أهلية معظم من وصلوا إلى المواقع العليا في هرم السلطة. وإلّا لماذا لا يذكر التاريخ الاستقلالي حتى اليوم سوى أربعة أو خمسة أشخاص على الأكثر ممن آلت إليهم مواقع المسؤولية أي المصير.

هل استسلم لبنان؟ استسلمت الدولة فيه في بعض مراحل الأمس كما اليوم. إذ باتت الحدود بين لبنان وسوريا غير مرسومة إلّا على الورق. أما الحقيقة فهي بين أيدي المُهربين وأرجلهم على أنواعهم. فما يحصل اليوم على الحدود مع سوريا لعله يُشبه مع فارق الزمان والمكان ما حصل بعد «النكبة» عام ١٩٤٨. فهنالك لغطٌ تاريخي مُعلن عن الأعداد التي كان على لبنان أن يستضيفها يومذاك، وهي أقل بكثير من تلك التي دخلت أراضيه واستقرّت في مخيماته قبل أن تتحوّل إلى سلطة مسلّحة بعد اتّفاق القاهرة عام ١٩٦٩ وتحضر ثورتها من الأردن في أيلول ١٩٧٠ بالأعداد والسلاح إلى لبنان. والباقي معروف.

لم يكن لبنان في غُربةٍ عن العالم. ولكن الغرب، الغرب المُقرِّر في شؤون العالم، وعلى رأسه أميركا هو بعيدٌ اليوم عن مشاغلنا وهمومنا. نستقبل من وقتٍ لآخر ضيفًا جاء ليستطلع، وننتظر مجيء آموس هوكشتاين ليأتينا بشكلٍ من أشكال الحلول. وترانا نغتبط لالتقاط إشاراته في تجوالاته، من زيارة قلعة بعلبك إلى مطاعم الروشة وذلك من شدة اللهفة إلى تلك الإشارات المُطمئنة من قبل مستشارٍ في البيت الأبيض، وشاغله مشغولٌ بمعركته الانتخابية الرئاسية التي هي قضية العالم اليوم. العالم المُنشغل بأميركا، وأميركا المنشغلة بنفسها. لكن التاريخ المعاصر والحق يُقال شهد اهتماماتٍ أميركية بارزة بلبنان وأمنه وسيادته وسلامته وحريته. حصل ذلك في أوقاتٍ متفاوتة قد لا يتسع المجال هنا لمراجعتها، ولا لشرح الأسباب والعوامل التي أدّت إلى ابتعادها عنه. فأميركا تذهب إلى مواقع الثبات وفقًا لمصالحها. واستقرار الدول مرهونٌ بقدرة هذه الدول على إحلاله داخلها بصرف النظر عن وسائل فرض ذلك الاستقرار. إذ ليست الأنظمة الديمقراطية مقياس تعامل أميركا معها، بل القدرة على حفظ الأمن داخل حدودها. وعلى هذا الأساس يكتفي لبنان في الوقت الحاضر باستقبال الزائرين الأجانب الذين يحضرون كما يقولون للاستعلام.

أميركا والعالم مشغولان على سبيل المثال بالإمارات وقطر وأخبار الإمارات وقطر تملأ الصحف العالمية. وفي صالات الاستقبال في المطارات الدولية إشاراتٌ إلى تغيّر الوقت بين المدن الكبرى، كما في صالة استقبال مطار جينيف: ساعة لتُشير إلى الوقت في نيويورك وأخرى في سويسرا وثالثة في دبي ورابعة في سنغافورة. كيف صعدت دبي وأبو ظبي وقطر إلى تلك المراتب العليا في القرارات الإقليمية والدولية. نتمنى لتلك الإمارات الصديقة والنشطة كلّ الخير. ولكن منذ عام ٢٠٠٨، منذ مؤتمر الدوحة وحتى الآن في اللجنة الخماسية، كيف أصبحت تلك الإمارة الصغيرة مُشاركة في القرار المتعلِّق بلبنان، إلى جانب أميركا وفرنسا ومصر والسعودية. من ذكاء حُكّامها بالأمس كما اليوم، إضافةً إلى قدراتها الاقتصادية والمالية. ومن حُسن تعاملها مع ميزان القوّة الإقليمي، إذ بالرغم من أنها غير معترفة بإسرائيل ولا تُقيم علاقاتٍ معها مثل الإمارات، إلّا أنها تستقبل مسؤولي الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية والفلسطينية معًا، وقادة حماس يُقيمون فيها، وعلاقاتها مع إيران طبيعية، وكذلك مع تركيا وفرنسا وسائر الدول الأوروبية.

ومحطات «الجزيرة» التي أزعجت مصر زمنًا لعلها الصوت الأقوى بين الأصوات الإعلامية إقليميًا ودوليًا. وكان رئيس وزرائها السابق حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني من أدهى السياسيين العرب، إضافةً إلى نفوذه الاقتصادي. وهو حال المسؤولين الحاليين في الإمارات حيث باتت كيانات الخليج تلك مُستغنيةً عن جامعات لبنان، بعدما فتحت الجامعات والمتاحف الفرنسية والأوروبية فيها فروعًا لها، ابتداءً من أيام نقولا ساركوزي الذي كان يُحسن التعامل مع حكّام تلك الإمارات.

ولكن السؤال: هل بات لبنان على هامش الاهتمامات العربية والغربية، وهل إن صعود الخليج بهذا الشكل لعوامل متنوعة أسهم في حجب الاهتمام بلبنان، وإلى درجة أنها باتت هي نفسها مشاركة في تقرير شؤون لبنان، ذلك البلد الذي كان قُبلتهم.

لا يمكن للبنان أن يُقابَل بالإهمال أو باللامبالاة إلّا إذا كان المسؤولون عن قيادته ومصيره هم اللامبالون والمُهملون وغير الكفؤين. وإلّا كيف سار مطلع استقلاله مع آباء الاستقلال بشارة الخوري ورياض الصلح ثم كميل شمعون وفؤاد شهاب، ثم مع رفيق الحريري. إذ من المُؤسف ألّا تكون الدولة في لبنان مُنتظمة في سيرها بصرف النظر عمن يجلس على مقاعد القيادة فيها كما في الدول التي نحاول الاقتداء بها، لأن الديمقراطية السياسية تُقاس بأمرَين: فصل السلطات وتداول السلطة. وأزمة القضاء هي من إصرار المصالح على المسّ باستقلاليته. كما في دول تداول السلطة من أصحاب الكيانات الصلبة التي لا تهتزّ إذا رحل ديغول وجاء ماكرون على سبيل المثال.

الغرب يمدّ الأيدي إلينا. يبقى أن نقابل مبادراتهم بالمثل. إنهم يطالبون ولو بالحدّ الأدنى من الإصلاح. وها هو مصرف لبنان يَعِدُ بعض المودعين عبر تعميم جديد بالحق بسحب مئة وخمسين دولارًا شهريًا من ودائعهم! فما هو مصير الباقي؟

فهل صحيح أن اللبناني لا يتمرّد. فالتمرّد هو شرعة المقهورين. حدث ذلك عام ٢٠١٩، ورأينا من جاء لهدم الخيَم وإحراقها في ساحة رياض الصلح، كإيذانٍ بأن التمرّد له حدودٌ ممنوع تجاوزها. وكانت تلك إشارة كافية لحصر الغضب في القلوب.

والغضب المتنامي اليوم هو في الإصرار على ربط لبنان بحرب غزّة. والدول الغربية الصديقة من أميركا إلى فرنسا إلى بريطانيا إلى الاتّحاد الأوروبي تحاول فصلنا عن هذا الربط وآخر الزائرين هو وزير الخارجية الفرنسي الجديد استيفان سيجورنه بعد دايفيد كامرون ليحاولوا فصلنا عن تلك الحرب.

هذا الربط الظالم مع غزّة يستحق التمرّد. الدول الغربية تحاول فصلنا والقرار اللبناني -حيث هو مكانه اليوم- يُصرّ على الربط. واللبناني العادي يسأل عن حق: أين هي مصر أين هو الأردن وأين هي سائر الدول العربية، ومنها الإمارات والبحرين التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، ولماذا نحن، إضافةً إلى أزماتنا. واستهتار المسؤولين حسبما حصل في إقرار الموازنة عندما سادت الفوضى ولم يعرف العديد من النواب على ماذا صوّتوا. فهذا على الأقل نُسأل عنه نحن، بينما بعض أعضاء الحكومة ينشرون مقالاتٍ في الصحف ليعطوا دروسًا ليست من مهامهم.

أبراج لبنان هي من قمم الدهر، ومهرجاناته التي كان البادئ بها في الشرق قبل أن تنتقل إلى دول الخليج الصديقة، هي في الحقيقة أصوات أنهاره، التي نقلها روّاد الفنّ فيه إلى تلك الآفاق العالمية. فعندما قامت السيدة أم كلثوم بآخر زيارة لها إلى لبنان مطلع سبعينات القرن الماضي نشرت صحيفة النهار صورة مع السيدة فيروز تحت عنوان «لقاء القُمتَين». فلبنان هو دائمًا على القمم. أما الأبراج فهي من صنع الإنسان وبُهرج أمواله. بربارا هاتون صاحبة «الإمباير ستايت» في نيويورك زارت مرّةً مدينة طنجة في المغرب واختارت لها منزلًا كتبت على بابه: «يقولون إنّ الجنة هي فوق الأرض هناك، إنها هنا هنا هنا»، ولُقّبت بعد ذلك بأتعسِ أغنى امرأة في العالم.

سرّ لبنان أنه ليس تعسًا. وأهله لا يعرفون التعاسة. لعل هذا هو سرّ تمرّدهم. أهو صمودٌ أم صبرٌ أم تأقلمٌ مع الأوضاع أم تعالٍ؟ حار الكثيرون في وصف اللبنانيين. وصفوهم بالشعوب بدل الشعب، وبأتباع الزعماء بدل المواطنين. ولكنهم هنا. هاهنا إنهم دائمًا على القمم ولم يكونوا يومًا في الخيم.

الدكتور داود الصايغ/النهار

الخميس 8 شباط 2024